قائد الطوفان قائد الطوفان

أربكان.. حرب ضروس لاستعادة تركيا المسلمة

الرسالة نت - وكالات

" أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام، ولقد حاول الماسونيون والشيوعيون بأعمالهم المتواصلة أن يُخرِّبوا هذه الأمة ويفسدوها، ولقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، فالتوجيه والإعلام بأيديهم، و التجارة بأيديهم، والاقتصاد تحت سيطرتهم، وأمام هذا الطوفان، فليس أمامنا إلا العمل معاً يداً واحدة، و قلباً واحداً، حتى نستطيع أن نعيد تركيا إلى سيرتها الأولى، و نصل تاريخنا المجيد بحاضرنا الذي نريده مشرقاً".

توفي الأحد صاحب هذه الكلمات، عميد الإسلاميين الأتراك نجم الدين أربكان رئيس وزراء تركيا الأسبق ومؤسس الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا عن عمر ناهز 85 عاما، وسيجري دفن الجثمان في مقبرة العائلة الموجودة بـ"مركز أفندي" بأسطنبول في الاول من مارس عقب صلاة الظهر بجامع فاتح باسطنبول.

نعاه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بعد أن قطع رحلته لألمانيا قائلا في خطاب للأتراك "كان أربكان عالما كرس حياته للمعرفة، سنتذكره بالعرفان".

أربكان هو المرشد والمعلم لأردوغان، ولُقب أربكان بـ"الحجة" أي الأستاذ، ومن المفارقات أنَّ الزعيم والمفكر أربكان توفي في 27 فبراير وهو التاريخ الذي يسبق ذكرى الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش التركي ضد حكومته في 28 فبراير من عام 1997م.

الأب الروحي

الدكتور كمال حبيب المتخصص في الشأن التركي اعتبر أربكان الأب الروحي للإسلام السياسي في تركيا، أسس الحركة الوطنية وهي أول حركة تحاول إحياء هوية إسلامية مستقلة عن العلمانية لتركيا، تكون توجهاتها إلى الشرق أكثر من الغرب.

كما أنه أول من أسس أحزابا مستقلة للإسلاميين، فاستطاع حزب "السلامة" في السبعينيات أن يشارك في تشكيل الحكومة في تركيا، ثم أسس حزب "الرفاه" واستطاع عبره أن يكون أول رئيس وزراء مسلم، كما أن رجب أردوغان رئيس الوزراء الحالي يعد من تلامذته.

مست أربكان بعض نوازع الإسلام الشرقي الذي به كثافة وقوة لم تعتدها تركيا العلمانية، الذي اصطدم معها، ومن ثم أغلقت جميع أحزابه، وهو ما تلافاه أردوغان فيما بعد واختار طريقاً أقرب للروح التركية.

ويشير صاحب كتاب "الدين و الدولة في تركيا .. صراع الإسلام والعلمانية" أن أربكان كان متشدداً في مواجهة الغرب والماسونية وإسرائيل على وجه الخصوص، ومن ثم حاول تشكيل تكوينات اقتصادية مع العالم الإسلامي، ومن خلال قراءة التاريخ التركي يمكننا القول أن هذا لم يناسب الواقع التركي المائل إلى العلمانية رغم وجود النزعة الدينية بها لكنه ليس بالكثافة التي أراد ان يفرضها عليه أربكان ولذلك لم يحتمل الأتراك ذلك، وكان الصدام موجوداً بصفة دائمة.

ويصف حبيب نظرة العالم العربي والإسلامي إلى أربكان في ذلك الوقت بأنها نظرة يملأها الفخر والاحترام، فقد وجدوا به نموذجاً جديراً بالدراسة، فقد كان خطوة مهمة في مسألة طرح مفاهيم إسلامية بها قدر من الاعتدال لمحاصرة العلمانية، التي طرحها للنقاش العام وسمح بانتقادها.

وتعد أبرز إنجازاته إعادة الاعتبار للهوية الإسلامية في تركيا كهوية ممكنة بديلاً عن العلمانية المتطرفة، كما أنه ساهم في استعادة التاريخ العثماني القديم، بعد أن كان تاريخ تركيا يبدأ فقط من بداية الجمهورية عام 1924 على يد كمال اتاتورك فكان بذلك يختزل تاريخاً طويلاً من عمر تركيا.

لذلك اعاد أربكان الاعتبار لمناسبات منسية مثل فتح اسطنبول، وكان يحتفل بهذه المناسبة على نطاق واسع عبر مؤتمر سنوي فخم يدعو إليه القيادات العربية والإسلامية من مختلف دول العالم.

منجز ثقافي

"له فضل كبير على الإسلام وعلى تركيا"، هكذا وصف السياسي والصحفي البارز مجدي أحمد حسين أربكان، مشيراً إلى أنه دافع عن وجود التيار الإسلامي في تركيا في أحلك العصور والاوقات، وتعرض لكل المخاطر الممكنة من العسكر، ولكنه مع ذلك استطاع تمهيد الطريق للإسلاميين للوصول إلى الحكم، فقد كانت أحلامه واسعة من أجل أن تشهد تركيا نهضة إسلامية، وبالتالي يمكننا القول أنه لولاه لما عرف حزب "العدالة والتنمية" طريقه الصحيح للوصول إلى الحكم عبر رجب طيب أردوغان الذي كان من تلامذته.

فما تعرض له حزب "الرفاه" بقيادة أربكان من ملاحقة وحل ساعد حزب العدالة والتنمية على ضبط بوصلته، والتعديل من أهدافه حتى يستطيع قيادة تركيا.

وكما يؤكد حسين فإن ما فعله أربكان من فتح الطريق أمام التيار الإسلامي في تركيا أمر ليس سياسياً فحسب بل أنه يشمل أبعادا ثقافية أيضاً، فقد أتاح أن تظهر محطات تليفزيونية وإذاعية ذات توجه إسلامي فضلاً عن الصحف، كما أنه أعاد الاعتبار للهوية الإسلامية التركية.

ويذكر له أيضاً انه حاول اخذ تركيا بعيداً عن إسرائيل، لكن موقف العسكر المتشدد حال دون ذلك، ولكنه أدى دوره ورسالته وسوف يواصل تلامذته الطريق من بعده على ضوء ما تعلموه منه.

من هو؟

ينحدر البروفيسور نجم الدين أربكان من نسل الأمراء السلاجقة الذين عرفوا في تاريخ تركيا باسم "بني أغوللري "، وكان جده آخر وزراء ماليتهم، وكانت أسرة أربكان تلقَّب بـ"ناظر زاده" أي ابن الوزير.

ولد نجم الدين أربكان عام 1926 في مدينة سينوب الواقعة على ساحل البحر الاسود، أنهى دراسته الثانوية عام 1943م تخرج في كلية الهندسة الميكانيكية باسطنبول عام 1948م، وكان الأول على دفعته، عمل معيدًا في نفس الكلية، ثم أرسلته جامعته في بعثة علمية إلى جامعة "آخن" الألمانية وقد ابتكر عدة ابتكارات وهو يدرس في ألمانيا لتطوير محركات الدبابات.

عاد نجم الدين أربكان إلى اسطنبول وأصبح "بروفيسور" وهو لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره، وبعد تخرجه من الكلية بدأ حياته السياسية، ليصبح رئيسا لاتحاد النقابات التجارية، تولى البروفيسور أربكان رئاسة مجلس إدارة شركة مصانع المحرك الفضي (1956 - 1963م )، إلى جانب منصب مديرها العام، ثم تولى منصب الأمين العام لاتحاد غرف التجارة والصناعة والبورصة التركية في عام 1967م، وفي عام 1968م أصبح رئيساً للاتحاد، وعندما تولى أربكان هذا المنصب ثارت ثائرة الدوائر العلمانية والماسونية، وشنَّت الصحافة العلمانية والصهيونية حملة شعواء ضده.

ثم انتخب عضوا في مجلس النواب عن مدينة قوينة، التي خاض انتخابات مجلس النواب عنها  عام 1969م، وفاز باكتساح.

أسس أربكان الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا في سبعينات القرن الماضي بإنشاء حزب ذي مرجعية إسلامية للسكان القرويين المحافظين والفقراء في الحضر في بلد كان الدين فيه مستبعدا من الحياة السياسية.

صراع العلمانية

أسس أربكان أحزاباً كثيرة بلغ عددها في فترة زمنية قصيرة خمسة أحزاب، فلا يكاد يؤسس حزباً حتى يحاصره حماة العلمانية في تركيا وخاصة جنرالات المؤسسة العسكرية، فيحظروه ويختموا أبوابه بالشمع الأحمر.

فقد أسس نجم الدين أربكان أول حزب إسلامي في تركيا وسماه "حزب النظام الوطني" عام 1970م. صدر حكم بحله، فعاد سنة 1972م بتأسيس حزب جديد سماه "حزب السلامة الوطني" وأنشأ مجلة لهذا الحزب باسم "مللي غازيته".

اندمج حزبه "السلامة الوطني" مع حزب "الشعب الجمهوري"، وتولى منصب نائب رئيس الوزراء وشارك رئيس الحكومة بولند أجاويد في اتخاذ قرار التدخل في قبرص في نفس العام.

في عام 1980م قاد مظاهرة ضمت أكثر من نصف مليون تركي بمناسبة "يوم القدس العالمي" وهتفت المظاهرة بشعارات معادية للكيان الصهيوني، وبعدها بيوم واحد قام انقلاب عسكري مما أدى الى سجنه هو وعدد من رجاله.

أسس حزب "الرفاه" الإسلامي ودخل الانتخابات البرلمانية عام 1996م، حيث حصل على 185 مقعدا ليصبح أكبر حزب في تركيا، ليترأس أربكان حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيللر.

 في عام 1998م تم حظر حزب "الرفاه" وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكن أربكان عاد ليؤسس حزبا جديدا باسم "الفضيلة" بزعامة أحد معاونيه وبدأ يديره من خلف الكواليس، لكن هذا الحزب تعرض للحظر أيضا في عام 2000م.

 ومن جديد يعود أربكان ليؤسس بعد انتهاء مدة الحظر في عام 2003م حزب "السعادة"، لكن خصومه من العلمانيين، تربصوا به ليجري اعتقاله، وحكم عليه بسنتين سجنا وكان يبلغ من العمر وقتها 77 عاما.

مواقف مضيئة

سيذكر التاريخ لهذا الرجل أن على يده شهدت العلاقات التركية العربية أول عملية تقارب حقيقي يوم أن كان نائباً لرئيس وزراء تركيا ثم رئيساً لوزرائها، كما قدم عام 1980م مشروع قانون إلى مجلس النواب التركي يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني.

خلال أقل من عام قضاه رئيسًا للحكومة التركية، سعى أربكان إلى الانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، حتى بدا وكأنه يريد استعادة دور تركيا الإسلامي القيادي، فبدأ ولايته بزيارة إلى كلٍّ من ليبيا وإيران، وأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنجلاديش وماليزيا.

عزل أربكان وزير الخارجية التركي خير الدين أركمان بسبب سياسته المؤيِّدة للكيان الصهيوني، كما حاول أثناء رئاسته للحكومة إغلاق المحافل الماسونية وأندية الليونز والروتاري الماسونية، وكان محامي فلسطين في تركيا ، الذي يقول دائماً: "إن فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم، و لا للعرب وحدهم، و إنما للمسلمين جميعاً".

وفي مقابل ذلك حرص العلمانيون على تشديد حصارهم حول البروفيسور نجم الدين أربكان، ولم يكتفوا بالحكم الصادر من قبل بمنعه من العمل السياسي، بل حرصوا على إبقائه بعيداً عن الساحة السياسية، ففي 5-7-2007م أكدت محكمة التمييز حكماً كانت قد أصدرته محكمة أمن الدولة في مدينة "ديار بكر" بالسجن لمدة عام لأربكان بتهمة التحريض على الكراهية الدينية والعرقية،  ولكن الرئيس التركي عبد الله جول أصدر عفوًا رئاسيًّا عنه في 18 أغسطس 2008م؛ بسبب تدهور حالته الصحية.

البث المباشر