“تبادلت أنا وعائلة كيلو من السكر مقابل نصف كيلو من السمن، أجبرتنا الأسواق الفارغة على المقايضة، نريد سد جوعنا.” قالتها سامية الهسي بصوت متعب بعد أن عادت من السوق بأيدٍ فارغة، فاضطرت لتبادل ما لديها مع عائلة أخرى لتسد جوع أطفالها.
في ظل الحرب الشرسة والحصار المتواصل على قطاع غزة لليوم ال400، ومع إغلاق المعابر وإمدادات الغذاء والدواء المتقطعة، اضطر أهالي غزة إلى العودة إلى أسلوب حياة قديم كان يُظن أنه قد ولى منذ عقود طويلة "المقايضة".
ومع انقطاع البضائع، وارتفاع أسعار ما تبقى من سلع في الأسواق، باتت فكرة تبادل السلع الضرورية بين العائلات وسيلة بقاء، كأن الزمن عاد إلى الوراء، إلى عهد ما قبل العملات والأموال، حيث بات الناس يتعاملون بما لديهم من موارد ليتجاوزوا الأزمة القاسية، التي تفاقمت حتى أصبحت الأسواق شبه فارغة، ولم تعد الأموال كافية لشراء ما يحتاجه الناس.
في الوقت الذي كانت فيه سامية تبحث عن السمن، كانت عائلة أخرى تبحث عن السكر، وكل منهما عجز عن تلبية احتياجاته من السوق. اضطروا إلى العودة إلى “التفاوض التقليدي” الذي لم يكن هدفه المكسب، بل المساعدة المتبادلة من أجل سد الجوع.
تبادلت عائلة أبو أحمد مع جيرانها في مخيم النزوح كيسا من الطحين مقابل خمسة كيلوات من الأرز بعد أن أصبح كلاهما شحيحا وارتفع سعره، فأصبح الناس يتبادلون المواد الأساسية التي يمتلكونها للحصول على ما يحتاجونه، في محاولة للتكيف مع ظروفهم المعيشية الصعبة.
أعادت هذه الأزمة التذكير بالطرق البدائية للتبادل، حيث لا تعتمد الحياة على المال، بل على ما يملكه كل فرد من السلع الأساسية.
مشهد المقايضة اليوم يعيد إلى الأذهان مشاهد من تاريخ قديم، حيث كانت المجتمعات تعتمد على تبادل المواد الغذائية والخدمات بين بعضها البعض لتحقيق التوازن في ظل ندرة الموارد، لكن الفارق أن سكان غزة في القرن الحادي والعشرين يجدون أنفسهم مجبرين على اللجوء إلى هذا الأسلوب ليس رغبة، بل كوسيلة وحيدة للبقاء وسط واقع مرير فرض عليهم.
بدأت هذه الظاهرة بالانتشار على نطاق واسع، وأصبح البعض ينشر ما يتوفر لديه عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويطلب ما ينقصه لعله يجد من يبادله، لأن التحدي ليس في تلبية الاحتياجات فقط، بل أيضًا في العثور على من يملك ما تحتاجه ويحتاج إلى ما تملكه، مما يجعل عمليات التبادل أحيانًا معقدة وتستغرق وقتًا طويلًا.
لكن رغم ذلك، باتت المقايضة وسيلة لتقوية الروابط الاجتماعية بين الناس، وأصبح الجميع يشعرون بمسؤولية مشتركة تجاه بعضهم البعض.
ولا يقتصر الأمر على المواد الغذائية فقط، بل يشمل أيضًا الخدمات، فقد يعرض أحدهم مساعدته في أعمال يدوية أو زراعية مقابل حصته من الطعام.
وبهذا، أصبحت المقايضة في غزة نموذجًا ليس فقط للتكيف مع الأوضاع، بل أيضًا للتكافل الاجتماعي والعمل الجماعي لمواجهة أزمة قد تطول.
قد تكون المقايضة مجرد وسيلة مؤقتة، لكنها تعكس واقعاً مريراً فرضه الحصار والتضييق على سكان القطاع. هذه الطريقة ليست حلاً دائمًا، لكنها وسيلة للصمود، وحكاية جديدة تُضاف إلى سلسلة حكايات الصمود التي يعرفها كل من عاش في غزة أو زارها.
العودة إلى المقايضة ليست خيارًا سهلًا، بل هي مرارة فرضتها الحرب والحصار ، يجد أهل غزة أنفسهم عالقين بين احتياجاتهم وصعوبة الحصول على تلك الاحتياجات، محاولين بقدر استطاعتهم تأمين حياة كريمة لأسرهم، ولو بتبادل المواد البسيطة التي يملكونها.