قائد الطوفان قائد الطوفان

الأسيرات يروين حكايات لم تُصوّر عن عذاباتهن

 القدس المحتلة– الرسالة نت

جلست على أعتاب بيتها الصغير تروي أيام اعتقالها الأولى، اعتدلت وأخذت نفساً عميقاً وكأنها ستفصح عن أكبر سر حملته روحها، ثم بدأت بالكلام وصوتها يرتجف بنبرات هادئة تارة وغاضبة تارة أخرى، فحياة الأسر لدى الأسيرة المحررة زهور حمدان من رام الله ليست عابرة ولا عادية. "لا يمكن أن أنسى لحظة واحدة من حياتي في السجون، هناك عذابات لا يشعر بها أحد، هناك صرخات للأسيرات لا تصل لمسامع أحد، السجان كان يقتلنا بظلمه وجبروته..".

تلك الأسيرة حرمت من دفء الأمومة الذي من المفترض أن تسبغه على أطفالها، ففي فجر 13/5/2003 خيّم ظلام السجن على زوايا روحها وأنفاس أبنائها الذين غيبت الزنازين والدتهم، أما هناك خلف القضبان فقصة ألم أخرى تبدأ مع القيود مروراً بالعذاب وصولاً إلى الاحتراق قهراً.

 

وتضيف حمدان لـ"الرسالة نت":" كان السجن لي بمثابة تحدٍ، إما يقهرني أو أقهره بعزيمتي، في البداية كنت لا أطيق عتمة السجن ولا ظروفه وأشعر بأنني سأختنق، ولكنني عزمت على قهره وظلمه وبدأت أستمد الإرادة من الأسيرات الأخريات".

زهور أمضت في السجن ست سنوات ذاقت خلالها العلقم، فإلى جانب ممارسات السجان بحقها وكل الأسيرات، خاضت بناتها تجارب العمر من زواج وإنجاب وخطوبة دون أن تكون إلى جانبهن. وتتابع:" حين كنت في الأسر تزوجت ابنتي وشعرت يومها بأن قلبي يريد أن يغادر الأشياك وصولاً إليها، بقيت أدعو لها بالخير ثم قررت أن أحيي الحفلة في السجن واحتفلت وفرحت مع أخواتي الأسيرات رغماً عن الاحتلال، ثم أنجَبَت بعد عام وأحسسْتُ بالأمومة تقتلني وتكاد تجبرني على كسر الأسوار والجدر، وبعدها بفترة بسيطة خُطبت ابنتي الثانية وشعرت بالإحساس ذاته".

"أشتاق إلى أمي"

أما كلمات الطفلة ضحى (16 عاما) من مدينة رام الله فتلامس أوجاع القلب وتزيد الأسى أسىً، فهي لا يمكن أن تنسى كيف اعتقل الجنود والدتها المريضة الأسيرة كفاح قطش قبل ثمانية أشهر.

وتقول لـ"الرسالة نت":" اقتحموا المنزل فجراً وبدأوا بالتحقيق معها، أنا اعتقدت أنهم سيعتقلون والدي ولكن المجندات توجهن نحو أمي، ورغم أنها مريضة قاموا باقتيادها ووضعها في آلياتهم وأبعدوها عنا.. ما زلت أشعر بالصدمة على غيابها، كل ما في البيت يذكرني بها".

هذه العائلة أحست بغياب نور البيت ودفئه بمجرد تغييب الوالدة، يبقى الذهن معلقاً بها يتساءل عن أحوالها، فهي تعاني من مرض نادر يمنع وصول الدم إلى الأطراف ويؤدي إلى تآكلها تدريجياً.

ويقول زوجها حازم لـ"الرسالة نت":" قلت للضابط يوم اعتقالها "كيف تعتقل امرأة مريضة؟ قال نحن نعلم أنها مريضة ولكن يجب أن نعتقلها"، لا أدري كيف مرت الأيام علينا، الزوجة والأم هي القلب النابض في البيت، نشعر الآن أننا لسنا في منزلنا بل في منزل غريب آخر بارد كئيب مظلم".

ولكن هذه التجربة القاسية أسبغت شيئاً من التحدي وقهر السجان على نفوس كل أفراد العائلة، فضحى تحاول أن تتسلم المسؤولية كونها الابنة الوحيدة إلى جانب شقيقها الوحيد معاذ (17 عاما)، وتؤكد بأن اعتقال والدتها أعطاها دفعة إلى الأمام كي تُفرح الأسيرة في مقابر الأحياء.

وتضيف:" أجتهد في دراستي كي أخبرها في كل زيارة عن إنجازاتي، كما أنني أتحمل المسؤولية في المنزل بمساعدة والدي وشقيقي ولا يؤثر بي ظلم الاحتلال بل اتخذت من اعتقالها دافعاً لي".

ذل لمجرد الذل

وعلى جانب آخر من تلك الصورة المريرة وقفت تحكي لنا الأسيرة المحررة علياء (32 عاما) من مدينة نابلس تجربة العلقم في الأسر، فكانت اعتقلت عام 2004 على أحد الحواجز العسكرية ونقلت إلى مركز تحقيق حوارة الذي استجوبت فيه لساعات، وهناك قام ضباط الجيش الصهيوني بتفتيشها جسدياً ونزع ملابسها الخارجية عنها بقوة "وبغُلّ" كما تصف، ثم أجلسوها في زاوية صغيرة باردة معتمة وبدأوا معها جلسات التحقيق المهينة.

وتتابع لـ"الرسالة نت":" هناك كانوا يسألونني عن أسماء لم اسمع بها من قبل، ويستعملون معي أساليب تحقيق نفسية جعلتني أبكي في بعض الأحيان، فأنا لم أعتد على مثل هذه الأمور، ولكنني شددت من عزيمتي أمامهم وقررت ألا أجعلهم يفرحون بحزني.. كان المحقق يشتمني بأقسى العبارات ويتهمني بأنني فاسدة وأنه يعرف أموراً عني لا يعرفها أحد!، ورغم أنني أعلم أنه يكذب لجعلي أكثر ضعفاً إلا أنني تأثرت من كلامه وتخيلت أنني في أروقة عصابات المخدرات!".

بعد ذلك بدأت مجندات بمحاولة ممارسة التفتيش العاري بحقها، ولكنها رفضت وأبعدتهن عنها فاضطررن إلى تفتيشها من بعيد وعبر تمرير أجهزة على ملابسها لكشف حيازتها على أي معادن، وأثناء ذلك سمعت أصواتهن يتضاحكن ويتبادلن المزاح الأمر الذي ذكّرها كما قالت "بصور الأسرى العراقيين في السجون الأمريكية"، ثم نقلت إلى زنزانة انفرادية دون طعام أو شراب لساعات طويلة وهي مقيدة إلى كرسي صغير أوقف حركتها كلياً.

وتزيد على ذلك:" عندما رأيت شريط الفيديو الخاص بالأسيرة المحررة إحسان دبابسة عدت بذاكرتي إلى أيام التحقيق وتذكرت أنني سمعت أصوات آلات تصوير ولكن عيناي لم تلتقط أي أثر لها، ثم تذكرت أن ضحكات الجنود كانت متبوعة بعبارات تؤكد أنهم كانوا يلتقطون الصور بجانبي ولكنني غير متأكدة إن كنت ظهرت في الصور وأخشى الآن من نشرها مثلاً وأنا مقيدة".

وتلفت علياء إلى أن جنود الاحتلال أطلقوا على جسدها كلاباً بوليسية نهشت جزءاً من ساقها وهي مكبلة ومعصوبة العينين أثناء نقلها من سجن إلى آخر، فسمعت أصوات الكلاب من بعيد ولم تعتقد أنها تتجه إليها ثم ظنت أن الجنود سيبعدونها عنها ولكنها تفاجأت بأنياب تنهش ساقها.. "بدأت بالبكاء والصراخ ولم ينقذني أحد والجنود أسمعهم يتضاحكون، ثم جاء ضابط وأمرهم بإزاحة الكلاب عني فأبعدوهم بتباطؤ حتى نزفت دماً وأصابت الالتهابات ساقي بسبب الإهمال الطبي".

نفس المعاناة

وليست علياء أو زهور أول ولا آخر أسيرة يزج بها الاحتلال في زنازينه القاتمة، فسبعة وثلاثون يقبعن هناك مبعدات عن كل ما يمت للحياة بصلة ناهيك عن أسيرات قرية عورتا.. يعشن ظروفاً هي أقسى ما تكون ويمضين أحكامهن التعجيزيةَ بصبرٍ واتكال على المولى، وليس أشهد على ظروفهن البغيضةِ خلف القضبان سوى كلمات الأسيرة المحررة سمر صبيح من قطاع غزة التي ذاقت مرارها.

فتقول لـ"الرسالة نت":" الأسر بالنسبة لنا مرحلة صعبة ظالمة، كنا نعيش في السجون وكأننا شهداء، وكأننا غرباء عن كل العالم معزولون عن الحياة ولا أحد يستذكرنا، ولكننا لم نستسلم له وقهرناه بدل أن يقهرنا".

ومن بينهن أمهات يشتقن لأطفالهن منذ سنوات وأشهر طويلة، ولكن إدارة السجون البغيضة تمنع عنهن الزيارة وتحرمهن أبسط الحقوق وتصادر حتى الصور منهن كي تغرس الجرح أكثر في قلوبهن.

وتضيف صبيح:" لا يمكن أن يغيب عن ناظري مشهد اقتحام سجن هشارون، اقتحموا الغرف بسرعة ووحشية واعتداو علينا، وقامت إحدى المجندات بضرب الأسيرة أحلام التميمي ولكن أحلام ردت كرامتها وضربت المجندة فقاموا بعزلها في الرملة.. كما لا يمكن أن أنسى لحظات الولادة وأنا في الأسر، كبلوني ولم يرحموا ضعفي وقتها، ومنعوني من المسكنات خاصة وأنني أجريت عملية قيصرية، ثم أبعدوا طفلي عني ولم يروني إياه".

 

 

 

البث المباشر