د. يونس الأسطل
( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (
(الفتح: 27)
بالمقارنة بين هذا الموسم، والعام الماضي؛ بخصوص خروج حجيج قطاع غزة، نجد البَوْنَ شاسعاً، ذلك أننا قد حُرمنا من الحج في العام الماضي بالكلية، في إطار الحصار المضروب على قطاع غزة؛ حيث تشارك فيه سلطة رام الله بصورة مباشرة، فقد أرادوا إضعاف هيمنة الحكومة المنتخبة على القطاع، وإظهارها عاجزةً عن مجابهة المؤامرة التي تحاك ضدها، فقاموا بتسجيل أسماء جديدة للحج، غير أولئك الذين خرجوا بالقرعة في إطار وزارة الأوقاف عندنا.
وكانت الحكومة هنا بين خيارين؛ إما أن تسمح لهذه المؤامرة أن تَمُرَّ؛ حتى لا نُتَّهَمَ بتعطيل فريضة الحج، وإما أن نُفشل تلك المكيدة، ولو فاتنا الموسم لعامٍ واحد، وقد هدانا الله تبارك وتعالى للخيار الثاني؛ لنقطع دابر التآمر على الحكومة في الحج، كما قطعناه في وجوه الحصار الأخرى، وكان خيراً، وهاهم الحجاج يغادرون هذا العام دون أن يعبث بأسمائهم أَحَدٌ، ونرجو لهم حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعوداً مباركاً، والله خير المجيبين.
وقد شاء ربنا أن تقع بين الموسمين مجابهةٌ عصيبة، هجم فيها الصهاينة ومَنْ معهم بطريقةٍ تَتَرِيَّةٍ نازية على قطاع غزة، وكانوا يُبَيِّتون أن يُغَيِّروا الخارطة السياسية فيه، بعد أن يقضوا على المقاومة، ويحملوا الحكومة على الاستسلام، ويفرضوا علينا ما يشاؤون من شروط الهزيمة، بعد أن تعود السلطة إلى القطاع على متون الدبابات الصهيونية؛ ليجوسوا خلال ديارنا، ويجعلوا أعزةَ أهلها أذلةً، وكذلك يفعلون.
وقد مكروا مكرهم، وعند الله مكرُهم، وما كان مكرهم لتزول منه الجبال؛ أي الإسلام والمقاومة التي تجاهد في سبيل الله، فقد رُدُّوا على أعقابهم، وانقلبوا صاغرين خاسرين خاسئين، لم ينالوا خيراً، ولا زالت جرائمهم تلاحقهم في المحافل الدولية، ولن يُفلتوا من الجزاء الأَوْفَى في الدنيا والآخرة إن شاء الله.
إن هذه الآية تَسُوقُ بشارةً مشفوعةً بالقَسَم لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين مُحَلِّقين رؤوسكم ومُقَصِّرين لا تخافون، وقد كان هذا ذَهَاباً للهَمِّ والغَمِّ الذي نزل بالصحابة يوم الحديبية، إذْ حِيلَ بينهم وبين ما يشتهون من الوصول إلى الحرم، وأداء شعائر العمرة في العام السادس من الهجرة.
وتتلخص قصتها في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بَشَّرَ أصحابه بالظفر بالعمرة، وقد كانوا معكوفين أن يبلغوها بفعل الحصار الذي ضربه العرب عليهم، وفي مقدمتهم بنو عمومة المهاجرين من بطون قريش؛ ذلك أنه رأى في المنام أنهم أَتَوا البيت العتيق، فطافوا وسَعَوْا آمنين، ومنهم مَنْ حلق رأسه، ومنهم من قَصَّر شعره؛ إيذاناً بانتهاء العمرة، ولم يكونوا يَشُكُّون أنهم سيفوزون بها، فلما وقع الصلح، وتضمن شروطاً مجحفةً في الظاهر؛ أشبه ما يكون بما تشرطه حركة فتح اليوم للمصالحة مع حركة حماس، وكان من بين تلك الشروط أن يعودوا عامهم هذا دون عمرة؛ حتى لا يتحدث العرب أننا دخلناها عليهم عُنْوَةً، وأن تُخْلَى لنا الكعبة ثلاثة أيام على رأس الحَوْل، فنطوف ونسعى، ثم نعود، وقد وافق النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الشرط, وعلى غيره، وقد أغاظ ذلك معظم الصحابة، وهم الذين بايعوا بالأمس تحت الشجرة على الثبات والموت، فسألوا رسولهم: ألم تخبرنا أننا سنأتي البيت، فنطوف ونسعى آمنين؟!، فأجابهم عليه الصلاة والسلام: أقلتُ لكم في هذا العام، إنكم ستأتونه وتطوفون وتَسْعَوْنَ آمنين؟!.
ولم يَطُلِ الوقت حتى نزلت سورة الفتح تحمل البشارات الكبيرة، ومنها التمكن من إتمام العمرة لله، والتَّطَوُّفُ بالصفا والمرة آمنين لا يخافون، فأما الذين لم يَشُكُّوا لحظةً في موعود الله فإنهم يحلقون رؤوسهم، وأما الذين ارتابوا فيقصرون أشعارهم دون أن يستأصلوها، لذلك فقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية بالمغفرة للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين واحدة.
وقد ختم الآية بأنه سبحانه علم ما لم يعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً، وكان مما علمه سبحانه أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساءً مؤمنات، لكنهم يكتمون إيمانهم، ولو وقع القتال دون الصلح لَوَطِئْتُمُوهم بأسيافكم، ولكان أنْ لحقتْ بكم مَعَرَّةٌ بغير علم، حين يتحدث الناس أن محمداً قد قتل أصحابه، وأن المؤمنين قد قتلوا إخوانهم، هذا بالإضافة إلى علمه سبحانه أن الهدنة ستفتح طريق الدعوة؛ ليدخل في الإسلام أضعاف أضعاف من دخل من قبل، وأن قريشاً ستضطر إلى إلغاء تلك الشروط أمام المستجدات، كما حصل للمستضعفين حينما أفلتوا، والْتحقوا بأبي بصير، وأقاموا كتيبةً فدائيةً قطعت على قريش طريقها إلى الشام في رحلة الصيف، كما علم سبحانه أن قريشاً ستنقض الصلح، ويكون ذلك مُسَوِّغاً لفتح مكة، وإزالة كيان الشرك بالكلية، دون أن يُعَدَّ ذلك انقلاباً على الشرعية، كما يتغنى بذلك الذين نقضوا اتفاق مكة الأخير بتجديد الفلتان، وقتل الأئمة والعلماء، بل والتخطيط لانقلابٍ عسكري ينتهي بالشرعية الثابتة لحركة حماس في غلوةٍ واحدة.
وأما قوله تعالى:" فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً"، فالمرجح في المراد به أنه فتح خيبر، فقد كان فيها لليهود ثمانية حصون منيعة، ظنوا أنها مانعتهم من الله، وخلال شهرين كانت قد استسلمت، وتحول أهلها إلى خدمٍ في حوائطها وبساتينها على شطر ما يخرج منها، على أنه متى أردنا إجلاءهم فعليهم أن يخرجوا دون السؤال عن الأسباب، وقد فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حتى لا يبقى دينان في جزيرة العرب.
وقد شاء الله جل جلاله أن يكون دخولنا المسجد الحرام هذا العام من بعد أن جعل لنا فتحاً قريباً؛ إذْ لم يكن بين ميقات الحج الذي صُدَّ أهل القطاع عنه وبين حرب الفرقان، أو الرصاص المسكوب، إلا شهر واحد، فأراد ربك أن يَرُدَّ بني صهيون على أعقابهم خائبين، وأن تلاحقهم لعنة الله في تقرير جولدستون وغيره، وقد حاولوا عرقلته في مجلس حقوق الإنسان بواسطة وكلائهم في الشعب الفلسطيني، فافتضح أمرهم، ومضى التقرير في طريقه إلى ملاحقة قتلة الأنبياء.
وقد حاول الصهاينة التغطية عليه بادِّعاء امتلاك كتائب القسام لصواريخ إيرانية تصل إلى قلب تل أبيب، وأنه قد تَمَّ القبض على سفينة أخرى تحمل حاوياتٍ من الأسلحة المختلفة متجهةً من طهران إلى جنوب لبنان؛ لعلها تبدو في موقف الدفاع عن النفس، ما دامت صواريخ المقاومة قادرة على الوصول إلى عمق الكيان الصهيوني، فهي دولة مسكينة، والإرهاب من حولها يتهددها، فهي ماضية في تحقيق أمنها، ولو بجرائم الحرب ضد المدنيين، وضد البنية التحتية في الأرض المحتلة، وجنوب لبنان، بل وبالاستيطان في الضفة والقدس، على طريق تهويدها بالكلية، وقد اقترح بعضهم حَلّاً للمستوطنين بمنحهم الجنسية الفلسطينية؛ ليزاحمونا في التشريعي والحكومة، أو بمبادلة الأرض التي تجثم عليها المستوطنات، وهي خيرة أرض الضفة بالأرض الجُرُزِ البُور في النقب قبالة صحراء سيناء القاحلة شبراً بشبر، وذراعاً بذراع.
إننا جَدُّ متفائلين أننا على مرمى حجرٍ من اليوم الذي يدخل فيه الناس في حماس أفواجاً، فتزول السلطة ومشروعها الخائب، وتتهيأ الظروف لإجلاء خيبر إلى حيث ألقتْ رَحْلَها أُمُّ قَشْعَمِ، كما يقول المثل العربي.
والله ولي المؤمنين