الرسالة نت - وكالات
تطرح التطورات الجارية حالياً في سيناء تساؤلات حول حقيقة ما يجري في هذه المنطقة ذات الأهمية الجيوسياسية القصوى في الشرق الأوسط منذ القرن التاسع عشر، والتي تعدّ العازل الاستراتيجي الذي يحمي وادي النيل من التهديدات الآتية من جهة الشرق.
ولعل ما يعزز هذه التساؤلات هو الطبيعة الجغرافية والديموغرافية المعقدة لهذه المنطقة، التي يصطلح الخبراء المصريون على تسميتها بـ«المفتاح»، والتوازنات الدقيقة التي تحكمها من الناحيتين العسكرية والأمنية، خصوصاً بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978، فضلاً عن الغموض الذي تفرضه السلطات المصرية على كل ما يجري فيها من أحداث، لاسيما في ما يتعلق بهوية المجموعات المسلحة الناشطة فيها، وهو أمر كرّسه الرئيس المخلوع حسني مبارك، منذ أن استعادت مصر كامل سيادتها عليها في العام 1982، بعد احتلال إسرائيلي دام 15 عاماً.
وبعد فترة طويلة من الهدوء، بات ينظر إلى سيناء كنقطة توتر أمني بالغة الخطورة، ولاسيما بعد التفجيرات الثلاثة التي وقعت في منتجعات طابا ورأس شيطان ونويبع في الجنوب (7 تشرين الأول عام 2004)، ومن ثم تفجيرات شرم الشيخ (23 تموز عام 2005)، ومنتجع دهب (24 نيسان عام 2006)، التي أدت إلى مقتل العشرات بينهم سياح إسرائيليون وأجانب، فضلاً عن الهجمات التي استهدفت القوات المتعددة الجنسيات في سيناء (14 آب عام 2005 و26 نيسان عام 2006)، التي اتهم تنظيم «القاعدة» بتنفيذها، قبل أن يثبت أن منفذيها مرتبطون بما يُعرف بـ«جماعة التوحيد والجهاد»، وهو تنظيم يضم ناشطين من البدو والمصريين ذوي الأصول الفلسطينية.
ومن المفارقات أنه بالرغم من هشاشة السيطرة الأمنية في سيناء، فإن المنطقة لم تكن مسرحاً للعمليات التي شنتها الجماعة الإسلامية في مصر بين العامين 1992 و1997، التي استهدف فيها السياح الأجانب، ومراكز الشرطة، والتجمعات القبطية... ما يطرح تساؤلاً حول مدى ارتباط أحداث سيناء بما يعرف بـ«الإرهاب الجهادي»، علماً بأن جهاز أمن الدولة في عهد مبارك غالباً ما كان يرمي اتهامات من هذا النوع تنفيذاً لأجندات سياسية خاصة به على المستويين الداخلي والخارجي.
***** بعد ثورة 25 يناير
واحتل الوضع الأمني في سيناء واجهة الأحداث في مصر مجدداً منذ بدء ثورة 25 يناير، فخلافاً للطابع السلمي الذي اتسمت به التظاهرات المناهضة لمبارك في ميدان التحرير، وميادين السويس والإسكندرية وباقي المدن المصرية، كانت مناطق مختلفة في شمال سيناء تشهد اشتباكات مسلحة استخدم فيها السكان البنادق الرشاشة والقذائف الصاروخية، فضلاً عن تفجير خط لأنابيب الغاز المعدّ للتصدير إلى إسرائيل والأردن.
وبعد تنحي مبارك تصاعد التوتر الأمني في شبه الجزيرة الممتدة بين السويس غرباً وفلسطين المحتلة شرقاً، إذ عرفت المنطقة سلسلة من الأحداث، ليس واضحاً بعد مدى الترابط فيما بينها، وأبرزها تفجيرات متكررة لخط أنابيب الغاز، واشتباكات مسلحة بين البدو وقوات الأمن، وصولاً إلى مقتل عدد من رجال الشرطة والجيش في هجمات شنتها مجموعات إسلامية «تكفيرية» على قسم العريش، وما تردّد عن إقامة «إمارة سلفية» في سيناء، تزامناً مع التظاهرات التي باتت تعرف بـ«جمعة قندهار» في ميدان التحرير يوم 29 تموز، وإن كان المراقبون يستبعدون وجود صلة بين الحدثين.
أما التطوران الأكثر أهمية في هذا الإطار، فتمثلا في إطلاق القوات المسلحة المصرية عملية «النسر»، في مطلع الأسبوع الحالي، لإعادة فرض الأمن في سيناء، وسلسلة العمليات الفدائية في أم الرشراش (إيلات)، أمس الأول، الذي تردد أن منفذيها تمكنوا من التسلل باتجاه الموقع المستهدف عبر سيناء.
وتكمن أهمية عملية «النسر» في أنها أضخم خطة أمنية تنفذها القوات المسلحة المصرية في سيناء منذ أن استعادت مصر السيادة على شبه الجزيرة في العام 1982. وبحسب ما سرّب لوسائل الإعلام المصرية والعالمية، فإن العملية تستهدف خلايا يعتقد أنها تابعة لتنظيم «القاعدة» تكونت مؤخراً في سيناء، وتحديداً في المناطق الشمالية بين العريش ورفح، وتحديداً في منطقة السكاسكة، التي يقال إن عناصر من التنظيم يتدربون فيها، وسط أنباء عن وصول الطبيب الخاص لأسامة بن لادن إلى المنطقة.
وبحسب صحيفة «المصري اليوم» فإن الخطة تقضي بنشر فرقتين من القوات الخاصة من الجيش والشرطة قوامهما ألف عنصر، قابلة للزيادة إذا ما استدعت الحاجة، ومدعومة بـ 250 آلية ومدرعة، فضلاً عن مشاركة جوية من طائرات حربية. وهي تقوم على ثلاث مراحل، الأولى تستهدف تصفية «الجيوب الإجرامية» في مدينة العريش، والثانية مواجهة المجموعات «التكفيرية» على الخط الحدودي في رفح والشيخ زويد، والثالثة ضبط الأمن في وسط سيناء، وفيها ستتم الاستعانة بطائرات حربية، نظراً لطبيعة التضاريس الجبلية الصعبة، خاصة في منطقة «جبل الحلال»، التي تعدّ مركزاً لتجمع عدد كبير من الخارجين على القانون.
**** اعتبارات جغرافية
ولعل المثير في الحديث عن خطة كهذه هو أن عملية أمنية من هذا النوع تواجه صعوبات إن لجهة الطبيعة الجغرافية لسيناء، أو في الترتيبات العسكرية التي تخضع لها هذه المنطقة منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
وتمتد شبه جزيرة سيناء على مساحة 61 ألف كيلومتر بين ساحل البحر الأبيض المتوسط وخليج السويس وخليج العقبة. وهي نقطة التقاء بين قارتي أفريقيا وآسيا، وتمثل أيضاً منطقة حدودية، أو على الأصح عازلاً استراتيجياً بين وادي النيل وجيران مصر لناحية الشرق.
وبرزت الأهمية الإستراتيجية لسيناء منذ عهد محمد علي (القرن التاسع عشر)، فقد كانت المنطقة نقطة صراع بين المصريين والسلطنة العثمانية. ومع افتتاح قناة السويس أصبحت المنطقة في دائرة التجاذبات الدولية، التي تزايدت منذ بدء المشروع الصهيوني في فلسطين. وفي العام 1906 ضمها البريطانيون لولاية مصر، وجعلوها جزءاً من الدولة المصرية في إطار اتفاقيات ترسيم الحدود.
ومنذ العام 1949 خضعت سيناء، شأنها شأن قطاع غزة، للإدارة العسكرية المصرية، إلى أن اجتاحتها القوات الإسرائيلية في حرب العام 1967، لتبقى تحت الاحتلال حتى 24 نيسان العام 1982، حيث استعادت مصر السيطرة على معظم أنحائها في إطار اتفاقية كامب ديفيد، وخاضت معركة دبلوماسية قوية لاستعادة طابا عام 1989.
من الناحية الإدارية، تم تقسيم سيناء إلى محافظتين متساويتين من حيث المساحة، وهما محافظة شمال سيناء، ومحافظة جنوب سيناء. ويتولى ضابط كبير في الجيش (غالباً برتبة لواء) منصب المحافظ في كل منهما.
أما من الناحية العسكرية، فقد فرضت اتفاقية كامب ديفيد مجموعة ترتيبات عسكرية وأمنية، أصبحت أجزاء كبيرة من سيناء منطقة منزوعة السلاح، وتم بموجبها تقسيم شبه الجزيرة على النحو التالي:
المنطقة «أ»: وهي شريط يمتد من على طول الضفة الشرقية لقناة السويس من الشمال إلى الجنوب، ويسمح لمصر أن تنشر فيها فرقة مشاة قوامها 22 ألف عنصر.
المنطقة «ب»: وسط سيناء ويسمح لمصر أن تنشر فيها قوات من الشرطة وأربع كتائب عسكرية.
المنطقة «ج»: تمتد من حدود قطاع غزة باتجاه خليج العقبة وشرم الشيخ، وفيها تنتشر قوات الشرطة والقوات الدولية التي تتمركز في نقطتين (الغوة، وشرم الشيخ).
المنطقة «د»: شريط ضيق إلى الشرق من خط الحدود المصرية ـ الإسرائيلية ويسمح لإسرائيل أن تنشر فيه أربع كتائب مشاة.
وتضم القوات المتعددة الجنسيات المنتشرة في سيناء منذ 25 نيسان العام 1982 نحو ثلاثة آلاف عنصر و1900 مراقب دولي من عشر دول هي الولايات المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، والنروج، وكندا، وفيجي، وكولومبيا، والاروغواي، واستراليا ونيوزيلندا. وتبلغ ميزانيتها السنوية نحو 50 مليون دولار تمولها مصر وإسرائيل والولايات المتحدة.
وبموجب اتفاقية وقعت بين مصر وإسرائيل عقب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، فقد سمح لمصر بنشر 750 عنصراً من الجيش لضبط الحدود مع غزة، وهي تنتشر في منطقة فيلاديلفي.
أما باقي الحدود المصرية الإسرائيلية، وهي تمتد على مسافة 230 كيلومتراً، فتبقى من دون حماية، إذا ما استثنينا السياج البسيط المقام هناك (علماً بأن إسرائيل أقرّت مؤخراً خطة لإقامة سياج أكثر تطوراً).
وتقتصر الحركة بين مصر وقطاع غزة على معبر رفح، علماً بأن الحصار الإسرائيلي، الذي كان يحظى بدعم من مبارك، قد فرض على الفلسطينيين اللجوء إلى حفر الأنفاق، التي أصبحت تشكل تحدياً جديداً، وهو ما سعت السلطات المصرية لمواجهته بأشكال متعددة، من بينها تدمير الأنفاق في منطقة رفح، والجدار الفولاذي الذي بدأ العمل على تنفيذه في آخر سنوات حسني مبارك في الحكم.
****** الديموغرافيا والاقتصاد
مما لا شك فيه أن ثمة عوامل متعددة جعلت من سيناء منطقة قابلة للانفجار الأمني، ومن بينها فشل السلطات المصرية في دمج هذه المنطقة فعلياً في إطار الدولة المصرية، بالنظر إلى اعتبارات مختلفة، أبرزها عدم وجود خطة واضحة للتنمية الاقتصادية المستدامة فيها، وهو أمر دفع بالكثيرين إلى التحذير من «مشاعر انفصالية» لسكان شبه الجزيرة، التي ما زالت حتى اليوم في دائرة الاستهداف الإسرائيلي لمصر.
وتعد غالبية سكان سيناء من البدو، علماً بأنهم ليسوا من الرحل، باستثناء أقلية تعيش في المناطق الداخلية وتعرف باسم «العربان». ومن أصل 360 ألفاً، يشكلون إجمالي عدد سكان سيناء، يقدر وجود نحو 200 ألف من البدو، ينتمون إلى 15 قبيلة رئيسية، وينحدرون من شبه الجزيرة العربية والمشرق العربي، وينظمون علاقاتهم من خلال الاتفاقيات والأعراف القبلية.
ومن أبرز قبائل البدو في سيناء السواركة والرميلات (العريش، والشيخ زويد، ورفح)، والمساعيد والبياضة والدواغرة (غرب سيناء)، والتياها والاحيوات والعزازمة (من وسط سيناء إلى الضفة الغربية في فلسطين)، وأولاد سعيد والمزينة وأولاد سعيد (الجنوب)، والترابين (في نويبع والشمال).
ويتحدث بدو سيناء بلهجة خاصة تزاوج نبين الشامية والفلسطينية والسعودية، والعديد من قبائلهم تعتبر مختلطة بين مصر وفلسطين.
وبالإضافة إلى هؤلاء، ثمة فئات أخرى تعيش في سيناء، وهم أبناء وادي النيل، ممن قدموا إلى سيناء خلال مراحل مختلفة، والجبالية والبوسنيين الذين أتى بهم العثمانيون إلى المنطقة.
وإذا ما استثنينا الإجراءات التي اتخذتها السلطات المصرية خلال الحقبة الناصرية لدمج أبناء سيناء في النسيج الاجتماعي في مصر، لا بل معاملة الفلسطينيين في المنطقة كمواطنين مصريين متساوين في الحقوق، فإن سلسلة الإجراءات التي اتخذت بعد ذلك أتت بنتائج عكسية، ناهيك عن الاحتلال الإسرائيلي الذي جعل قناة السويس الحدود الفعلية لمصر، وكرس انطباعاً بأن سكان المنطقة خونة وانتهازيون ومهرّبون... الخ
وفي عهد مبارك، تم التعامل مع سيناء بمكيالين، إذ اقتصرت التنمية الاقتصادية على جنوب سيناء، حيث ضخت المليارات في مشاريع سياحية، خصوصاً في شرم الشيخ وطابا، وبات أكثر من ثلثي السياح الوافدين إلى مصر يزورون هذه المنطقة، في وقت ظل شمال سيناء يواجه مشاكل حادة في التنمية استتبعت ارتفاعاً في معدلات الفقر والبطالة. وبذلك أصبحت سيناء مقسمة بين شمال فقير وجنوب يحظى بنصيب وافر من التمويل، ولعل هذا ما يفسر تصاعد حدة التوتر في مناطق مثل العريش والشيخ زويد مقارنة بمناطق أخرى في الجنوب.
مما لا شك فيه أن معالجة الأوضاع في سيناء قد أصبحت التحدي الأكبر بعد ثورة 25 يناير. وبعيداً عن المعالجة الأمنية لهذا الملف، ثمة حاجة ملحة إلى وضع برنامج تنموي وحده الكفيل بنزع فتيل أي انفجار أمني في منطقة ما زالت نقطة استهداف لقوى خارجية عديدة... أبرزها إسرائيل.