جزائرية وخريج جامعة ألمانية يتسولان بشوارع غزة

رمضان موسم التسول.. "حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة"

اجتماعي: ظاهرة خطيرة وجدت بفعل الفقر والبطالة

نفسي: ذوو المرضى النفسيين يستخدمونهم في رمضان للتسول

جمعية خيرية: الجمعيات تساعد 90% من الأسر المحتاجة

الشرطة: حصيلة المتسولين اليومية تصل لـ300 شيكل وأكثر

الأوقاف: نحارب الظاهرة عبر منابر المساجد والنشرات

تحقيق - مها شهوان-الرسالة نت

احتارت فطيمة الجزائرية وهي تختار إحدى رصيفي شارع عمر المختار للجلوس فيه حتى وجدت أخيرا ضالتها في مكان إستراتيجي بعيد عن زحمة المتسولين خشية إيذائها.

جلست في زاوية الرصيف متشحة بالسواد تلملم نفسها وتحاول تغطية وجهها بشالتها.. تستعطف من يمر بجانبها بلهجتها الجزائرية: "الله يكرمك أكرمني" إلى أن مر بها مجموعة من الشباب معلقين: "تلاقيكي معك فلوس أكتر منا"، فما كان منها سوى أن صرخت في وجههم قائلة: "أتسول لأعيل أبناء شعبكم"، قاصدة من كلامها أبناءها من زوجها الفلسطيني الذي طلقها وتركها وحيدة تعيل أبناءه.

حاولت "الرسالة" الاقتراب من الجزائرية لكنها رفضت الحديث إلا بعد منحها عدة شواقل لطمأنتها, وحول الدافع الذي جعلها تتجه للتسول قالت وهي ترفع نظرها نحو السماء محاولة حبس دمعتها في مقلتيها: "منذ عامين طلقني زوجي وعاد لزوجه الأولى.. تركني وأولادي دون معيل.. صرت أستدين إلى أن نفد صبر الناس وباتوا يطالبونني بالدين حتى وصل الأمر بي لطرق أبواب أهل الخير لكن ما يمنحوني إياه لا يكفي إيجار السكن".

وبعدما تنهدت عميقا وسقطت دمعة رغما عنها تابعت: "منذ ستة شهور نزلت لشوارع غزة وعانيت من المتسولين، فقد كانوا يرفضون وجودي بينهم، وتعرضت للضرب على أيدي بعض منهم إلا أنني جعلت لنفسي مكانا بعيدا عنهم"، مضيفة: "أرابط هنا من الساعة الثامنة مساء حتى غروب الشمس، وأحصل على حوالي 100 شيكل يوميا".

التسول حرفة

لم تكن فطيمة وحدها التي قابلتها "الرسالة" خلال بحثها عن المتسولين في شهر رمضان لإعداد تحقيقها الصُّحفي؛ فبالقرب من مجمع السرايا اتخذت "ك. ف" صاحبة البشرة الداكنة والثياب الرثة مكانا لها، وعند الاقتراب منها وقت الظهيرة كانت على ما يبدو تأخذ "قيلولتها" إلى أن استيقظت على وقع الأقدام ومدت يديها تلقائيا مرددة: "من مال الله".

وبعد وضع بضع شواقل في يدها دحرجتهم سريعا في مخبئها ثم رفعت رأسها ببلاهة لترى وجه فاعل الخير.. "الرسالة" جلست إلى جانبها لتسألها عن الحال الذي دفعها للنوم في الشارع ومد يدها للناس حتى ذبلت عيناها الجاحظتان، فقالت: "أعيش في بيت أخي وأعيل أسرته مقابل النوم عنده، ولاسيما بعدما طلقني زوجي"، مضيفة: "لم أجد عملا سوى التسول لمساعدة أخي لأني أمية لا أعرف القراءة والكتابة".

وتأتي "ك. ف" كل يوم إلى مكانها الذي تداوم عليه منذ عامين في الصباح الباكر وتنصرف بعد صلاة التراويح، وتجني المال الوفير بشهر رمضان كما قالت.

ومن الناحية الاجتماعية ذكر الاختصاصي د. وليد شبير أن ظاهرة التسول ظهرت نتيجة البطالة والفقر، "لكنها تزداد في شهر رمضان لكثرة الصدقات"، داعيا إلى البحث عن المحتاجين الذين لديهم كرامة تدفعهم لئلا يمدوا يدهم للناس، ومؤكدا أن للتسول خطر اجتماعي على مجتمعنا الغزي ويجب محاربته كونه يسهل الحصول على المال، وقال: "ليس كل متسول محتاجا, فهناك الكثير اعتبرها حرفة له لا يستطيع الاستغناء عنها".

ووفق شبير فإن استخدام الأهالي لأبنائهم في التسول يجعلهم ينشؤون كـ"محترفين"، مطالبا الأسر المتسولة بالبحث عن عمل بدلا من تعويد أبنائها على إذلال أنفسهم منذ الصغر.

وعن الجمعيات الخيرية التي بات يطرق أبوابها المحتاج وميسور الحال على حد سواء تحدث بأنه يجب على القائمين عليها بحث الحالات المتقدمة وتقديم المساعدة لمن يستحق، داعيا الجهات المتخصصة لضرورة ملاحقة المتسولين ومعرفة السبب الذي يدفعهم للتسول وعلاجه.

البكاء والتقارير الطبية

وفي مشهد آخر بين أزقة قطاع غزة يتجول خريج إحدى الجامعات الألمانية الأربعيني "ر. ش" متصنعا حركات توحي أنه معوق حركيا بصحبة ابنه ذي العشرة أعوام ليدوروا بالمحلات التجارية, ويقف كل يوم على باب مسجد حاملا بيده المرتجفة تقريرا طبيا لكسب عطف المصلين.

وقد اتخذ هذا الأربعيني من التسول مهنة له, كما يرغم عائلته على ارتداء الملابس البالية والأحذية البلاستيكية المهترئة، في حين أن زوجه تحمل طفلها الرضيع ذا العامين على يدها ملصقة على غطائه تقريرا طبيا مزورا.

وألقي القبض على "ر. ش" عدة مرات، وأثناء تحقيقات الشرطة أدلى بأن التسول جعله يجني وعائلته يوميا ما يقارب الـ500 شيكل بخلاف شهادته التي لم توفر له حياة كريمة كما يريد، وبيّن -خلال اعترافاته- أنه في البداية كان يشعر بالخجل لكنه مع الأيام أصبح ما يفعله مهنة وما يأخذ من مال هو حقا له.

وعلى الصعيد النفسي قال الاختصاصي في مستشفى الأمراض النفسية بغزة إسماعيل أبو ركاب: "يخرج ذوو المرضى النفسيين أبناءهم من المستشفى في شهر رمضان للاستفادة منهم في التسول وجمع أكبر قدر ممكن من التبرعات".

وفيما يتعلق بالأضرار النفسية التي تقع على الأطفال المتسولين أكد أبو ركاب أن غالبيتهم ينقادون بالإجبار؛ "مما يؤثر على نفسيتهم ويحملون بذلك وصمة التسول التي تشعرهم بالعجز عن تلبية احتياجاتهم"، مشيرا إلى أنه يصبح لديهم مناعة نفسية في تلقي الألفاظ الجارحة، حيث أن اهتماماتهم تنحصر بكيفية الحصول على المال.

وطبقا للاختصاصي النفسي فإن المتسولين مع مرور الزمن يصبح لديهم تبلد عاطفي لكثرة الإهانات التي يتلقونها من المارين، منوها إلى أن خطورة الأمر تكمن في موت أحاسيسهم وشعورهم أنهم أقل من الناس العاديين.

وحول الدافع الذي يجعل كبار السن يتمادون بالتسول أوضح أن لديهم اضطرابات شخصية تقودهم لذلك، "ولاسيما أن عددا منهم لا يحتاج للمال لكن شخصيته تدعوه للتسول لشعوره باللذة في استجداء الآخرين".

ويرى أبو ركاب أن المتسولين يتخذون أشكالا معينة لاستخدامها في التسول, "فمنهم من يجد أن البكاء وسيلة للحصول على المال مما يجعلهم يتكيفون مع الواقع الذي يتأثر به الناس"، موضحا أن التسول مرض نفسي بكل التصنيفات الاجتماعية والنفسية.

التسول ممنوع شرعا

وفي ميدان فلسطين "الساحة" يفترش أبو سمير الأرض ذاكرا لـ"الرسالة" أن لديه ثلاثة أولاد وابنة وزوجا مريضة, فهو وبمجرد الحديث معه بدأ يشكي سوء حاله ويطلب المال، والعجيب أنه تراجع وقال إن زوجه متوفاة ويريد الزواج بأخرى تربي أبناءه الستة.

ويبرر الستيني أبو سمير -ذو الشعر المغبر- تسوله كونه متعطلا عن العمل ولا يبغي الجلوس في البيت حتى لا يفتعل المشكلات مع عائلته، فهو يأتي إلى غزة قاطعا مسافة طويلة كي لا يعرفه أحد من جيرانه, وكثيرا من الأحيان يمر أبناؤه بالقرب منه ولا ينظرون إليه باعتبار أنهم يشعرون بالعار منه, طبقا لوصفه.

ووفق قوله فقد كان أبو سمير ينتظر إقبال شهر رمضان لكثرة خيراته، ولاسيما أن كثيرا من أهل الخير "يرزقونه"، موضحا أن الشرطة ألقت القبض عليه مرارا لكنه يخرج سريعا حينما يدفع الكفالة ويوقع على ورقة تعهد في النيابة العامة لعدم العودة إلى التسول غير أنه سرعان ما يمارس مهنته, على حد تعبيره.

وينفي تلقيه أي مساعدة من الجمعيات الخيرية، مدعيا أنه يطرق أبواب الجمعيات كافة لكنهم لا يستجيبون له.

وردا على ادعاء أبو سمير يرد الأمين العام للجمعية الإسلامية د. نسيم ياسين بالقول: "نقدم المساعدات لكل محتاج نتأكد من حاجته، ولكن المتسولين لا نتعامل معهم لشكنا في مصداقيتهم"، مضيفا: "نجري بحثا اجتماعيا قبل منح المحتاجين المساعدات إلا أن بعضهم يتردد على الجمعية بأكثر من اسم ليظفر بمواد غذائية أكثر من غيره".

وبين أن بعض المحتاجين ينفون تلقيهم للمساعدات وذلك لطمعهم الزائد، "في المقابل هناك أشخاص لا نستطيع الوصول إليهم"، لافتا إلى أن الجمعيات الخيرية في القطاع تساعد 90% من الأسر المحتاجة.

وأوضح ياسين أنه وفي شهر رمضان تطرق العائلات المحتاجة أبواب الجمعيات الخيرية بصورة كبيرة، "خاصة وأن المساعدات المالية والغذائية تأتي من داخل القطاع وخارجه"، مشيرا إلى أن بعض المحتاجين يحرصون على جمع أكبر عدد من المساعدات لطمعهم الزائد.

النيابة تفرج عنهم

وللتسول أنواع مختلفة منها بيع الأطفال لكتب دينية صغيرة أو ورق محارم وهم يرددون "الله يعطيك اشتري مني أبويا بالبيت بيستنى أجيب اله فلوس".. وهي تلك العبارة دائما نسمعها خلال سيرنا مصحوبة بدموع الأطفال المصطنعة.

الوصف السابق ينطبق على وضع أدهم -14 عاما- وإخوته الأربعة الذين يرافقونه طوال النهار رمضان تحت أشعة الشمس الحارقة وهم يتجولون بين السيارات والمحلات التجارية، في حين أن أختهم الكبيرة تجلس تراقبهم من بعيد محتضنة طفليها الصغيرين ومغطية وجهها بالنقاب الأسود, وحين الاقتراب منها للتحدث إليها امتنعت، وعندما حاولت "الرسالة" إقناعها بأنها تريد مساعدتها عبر زاوية "ألم وأمل" التي تنشر في الصحيفة بدلا من جلوسها في الطرقات رفضت بشدة وبدأت بالصراخ.

وعلى وقع صراخها حضر أخوها أدهم برفقة أخته التي تصغره بعامين وبدأت تهدد بإحضار الشرطة في حال تحدثنا إليهم قائلة: "إحنا مش شحادين.. بنكسب من عرق جبينا".

وبعد امتناع الإخوة عن الحديث توجهت "الرسالة" للرائد في الشرطة الفلسطينية أيمن البطنيجي للتعرف على دورهم في الحد من وجود المتسولين، فقال: "سبق واعتقلنا عددا من المتسولين وأخذنا تعهدا عليهم لكنهم يعودون مجددا للتسول بعد إفراج النيابة عنهم"، لافتا إلى أن الشرطة أطلقت حملة جديدة ضد التسول في شهر رمضان جرى فيها إصدار تعليمات للمحافظات كافة بمتابعة المتسولين وإيقافهم.

ووفق البطنيجي فإن الشحاذين يجنون في اليوم الواحد ما بين 300 لـ500 شيكل، موضحا أن 90% منهم غير محتاجين و80% أطفال يرسلهم ذووهم للتسول.

وأكد أن التسول تربة خصبة للسقوط الأخلاقي والعمالة؛ "لذا لا بد من تفعيل القانون المتعلق بهم لتتحرك الشرطة بعد سماح الجهات الرسمية المخولة بإعطاء التعليمات للقبض على المتسولين".

على أبوب المساجد

وعلى أبواب المساجد في الصلوات الخمسة يتزاحم المتسولون لحجز أماكن لهم تمكنهم من جلب المال الوفير من المصلين الذين يعطونهم باعتبار أننا في شهر كريم، ففي صلاة التراويح تحديدا يتجول كثير منهم داخل المساجد وبأيديهم تقارير طبية زائفة، أو يرقبون الأشخاص ذو الحال الميسور ويبدؤون بالشكوى إليهم مما يعكر صفو المصلين.

ومقابل باب المسجد العمري المطل على سوق الذهب جلست سيدة بدينة سمراء البشرة مرقعة الحجاب متسخة الثياب تنتظر خروج المصلين وقت صلاة التراويح، وحينما فرغوا من صلاتهم باتت تتسول إليهم بلهجة "استهبال" حتى التف حولها مجموعة من النساء والرجال واضعين في يدها ما جادت به أنفسهم وهي تنظر بـ"عين ونص" إلى ما يضعونه ثم تواصل استعطافهم.

مدير دائرة الوعظ الإرشاد بوزارة الأوقاف د. يوسف فرحات ذكر أن هناك توعية عبر منابر المساجد يلقيها الخطباء، "بالإضافة إلى النشرات التي توزع على المصلين لبيان خطورة التسول وكيفية التعامل مع المتسولين"، مشيرا إلى أن المتسولين الذين يقفون على أبواب المساجد ويطلبون المال مباشرة من المصلين يجب أن يدفع حالهم ببعض الأئمة للتصرف بحكمة بدلا من التشويش.

واعتبر أن تلك الظاهرة لا تتوقف على جانب التوعية فقط، "بل على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية أيضا".

وفي السياق نفسه يقول أستاذ الشريعة د. ماهر السوسي: "التسول ممنوع شرعا، وسيسأل المتسول يوم القيامة عن المال الذي أخذه بغير حق؛ لذا عليهم أن يتقوا الله"، وأضاف: "التسول يؤول إلى جرائم مركبة حرمها الإسلام كالسرقة والخداع وتعريض الأبناء لأخطار جسيمة عند إرغامهم على مد يدهم للآخرين"، مؤكدا أن زكاة المال والصدقات يجب أن تخرج للأيادي المحتاجة، "وليس لمن احترف التسول".

وبعد عرض ما سبق يبقى متسولو قطاع غزة باسطي أكفهم لنهش الجيوب الميسورة طالما لا يوجد قانون رادع لمحاسبة الكاذبين منهم ومساعدة المحتاجين.

البث المباشر