غزة - أمل حبيب
على يديها الخفيفتين خرجوا إلى الحياة الدنيا صغارا.. كانت أول من نظر إلى وجوههم قبل أمهاتهم.. ورغم قلة الإمكانات وصعوبة العمل التي تشغله فإنها كانت تستعد للمواجهة وتنطلق لتريح الحامل من آلام المخاض.
الداية أم محمد سعودي (96 عاما) ما زالت تحتفظ في جعبتها بالعديد من ذكريات لحظة الميلاد.. (الرسالة) التقتها لتروي تفاصيل مهنتها قبل أن تنقرض.
***** بقايا ذكريات
تقول أم محمد: "تعلمت المهنة من حماتي رحمها الله، ففي إحدى المرات توجهت لأولد الحالة بدلا من زوج عمي لعدم وجودها (...) لم أستطع رؤيتها وهي تتألم", وتضيف وهي تبتسم: "بعد أن وثق الأطباء بعملي منحوني الترخيص لمزاولة المهنة".
وخلال حديثها لـ"الرسالة نت" كانت الداية ظريفة تقلب سجلات مكتوب فيها أسماء الحالات التي ولدتهم وتاريخ الميلاد ورقم هوية ولي الأمر وكأنها تسترجعها حالة حالة.. تعابير وجهها كانت تتغير أثناء مطالعتها, فمرة تبتسم والأخرى تسرح ثم تردد: "والله سامحتهم كلهم".
ومن إحدى الحالات الصعبة التي لم تنسها الداية هي نزول أحد الأطفال بقدميه مما أدى إلى تدهور نفسية الأم وخوفها, ولكن أم محمد بخبرتها وحكمتها سيطرت على الموقف, وأمرت السيدة بأن تضع فوطة في فمها وقالت: "ولا كلمة.. ربنا معك", ثم بدأت بقراءة القرآن وعمل اللازم حتى تخطت الأزمة بسلام, وتابعت مفتخرة بإنجازاتها: "ما كان يحكيلي الدكتور إلا: برافو عليك يا ظريفة".
وكانت الكثير من الحوامل يلجأن إلى الداية ظريفة من مختلف مناطق القطاع لاستشارتها ومعرفة موعد الولادة ووضع الجنين, فكانت تفحص النساء بوضع يدها على بطن الحامل ثم تحدد موعد الولادة.
وتقدم الحاجة أم محمد الدعم المعنوي والرعاية خصوصا للحامل بعد "شوق وعطش" تحمل السيدة بعد سنوات طويلة من الزواج, وبعد صراخنا في أذنها لتسمع سؤال (الرسالة): ما هو أجرك بعد انتهائك من التوليد والرعاية؟ أجابت: "أعوذ بالله عمري ما طلبت من حدا شيكل (...) كل واحد وجهده".
وبعد أن مسحت قطرات من العرق تجمعت بين تجاعيد وجهها استذكرت "القابلة" إحدى الأسر المستورة التي أصر الأب فيها أن يعطيها أجرها ولكنها رفضت وقالت بعطف الأم الحنون: "يمه اشتري فيهم دجاجة لزوجتك.. أنا يكفيني السعادة إلي على وجوهكم".
*** حقيبة الداية وعدتها
وتتكون مستلزمات الداية من حقيبة فيها مقص وخيط ومتر وعبوة مطهر وختم خاص بها, وتشير الحاجة ظريفة إلى أن "الصحة" كانت تعطيها بعض الأدوات الطبية كميزان لقياس وزن المولود ومرابط للسرة, منوهة إلى أنها كانت تأخذ دروس ودورات للقابلات القانونيات في مستوصف السويدي بغزة.
وفي أوقات منع التجول خلال الانتفاضة كانت التسعينية أم محمد تتوجه إلى بيت السيدة التي تعاني من آلام المخاض دون تردد أو خوف من قوات الاحتلال, وفي إحدى المرات أوقفها أحد الجنود قائلا: "وين روخ؟"، فقالت: "مش شايف أنا داية", فأفسح لها الطرق ولم يمنعها.
تفاصيل حكاية الداية أم محمد ترجعنا إلى حياة الداية أم زكي في مسلسل باب الحارة التي كانت تتميز بخبرتها وعدم خوفها من أجل تخفيف آلام السيدات لحظة الميلاد.
وأدى التقدم العلمي والطبي إلى اندثار مهنة "الداية" تدريجيا فلم يبق منها إلا بقايا ذكريات في قلوب الدايات (القابلات), وفي إحدى الذكريات الجميلة عندما أنجبت سيدة ثلاثة توائم ذكور شعرت الحاجّة حينها بفرحة عارمة, وتنوه الحاجة سعودي إلى أن أعمار التوائم اليوم فوق الأربعين عاما وما زالوا يرسلون لها السلام مع والدتهم, ومن الحالات أيضا من يزورها ويتفقد أحوالها, وآخرون يهدونها بعض الهدايا تعبيرا عن احترامهم وحبهم لها.
ورغم تقدم سنها فإن الحاجة أم محمد لم تنس وجه حفيدتها ناصع البياض كالثلج قائلة: "كانت زي القمر ومن شدة حبي لها أسميتها على اسمي".
*** رعاية مستمرة
لم يقتصر عمل "القابلة" ظريفة على ساعة الولادة فقط ولكنها تتابع المولود صحيا بتفقد سرّته وتعقيمها وإخراج شهادة ميلاد له واحتفالها مع أسرته بالأسبوع إضافة إلى أن السيدات الحوامل كن يتابعن عندها فترة الحمل, ومن تتعرض إلى حالة نزيف أو مشكلة تحولها إلى المستشفى لعمل اللازم لها.
وتقول باعتزاز: "الحمد لله ما ماتت أم أو طفلها على يديا.. هذا من فضل الله", ثم صمتت لبرهة من الزمن وكأنها عادت لتعيش الماضي: "الله يرحم زوجي عمره ما منعني أو تضايق من عملي وكان يحكيلي هذا ثواب الله يسهل عليك".
"يا ريت ضليت بصحتي وضليت أولد".. بهذه الأمنية أنهت الداية أم محمد سعودي حكايتها مع لحظة الميلاد وكأنها تحن إلى ماضي لم يبق منه إلا الذكريات.