خان يونس- تسنيم النجار
ترى في وجهه نور الإيمان وعظمته، يدخل القلب دون استئذان، هو نوع فريد وطراز خاص من الرجال، لم يبحث عن جاه أو منصب برغم استطاعته، آمن بضرورة التربية والبناء والجهاد والعمل دون كلل أو ملل، إنه القائد الحاج الفقيد محمد عبد خطاب النجار، أحد مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين.
وتوفي النجار صبيحة الحادي عشر من نوفمبر لعام 2011 عن عمر يُناهز الـ 84 عاماً قضاها في طاعة الله وخدمة أبناء شعبه، وذلك بعدما أصيب بمرض عضال قبل أربعة أشهر انتقل خلالها لجمهورية مصر للعلاج، ثم مكث في المستشفى الأوروبي إلى أن توفاه الله.
ويعتبر النجار من أوائل المؤسسين لحركة حماس، حيث لازم الشيخ الشهيد أحمد ياسين في حياته، إلى جانب مجموعة من المؤسسين، كما أنه انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1948 بعد التحاق شقيقه الأكبر الحاج عايش النجار إليها.
مسيرته الحركية
وعن قصة التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين ومسيرته الحركية، قال شقيقه الحاج عايش النجار: "ذهب الفقيد إلى مصر في أوائل العشرينيات من عمره, وعاش فيها فترة, ثم انتقل للسعودية, وعاد لمصر ليتعرف على عدد من مشايخ الأزهر هناك، وسمع منهم عن الإخوان المسلمين".
وأضاف في حديث خاص "للرسالة نت": "عاد الشيخ لفلسطين, ليبدأ العمل مع عدد من القادة الأوائل والمؤسسين، (..) وشارك في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتحمل الاعتقال والتعذيب على يد الإدارة المصرية التي حكمت القطاع في الستينيات من القرن الماضي".
وأوضح أن الفقيد احتضن المجاهدين في بيته بعدما تخوَّف الجميع من احتضانهم، "فكان بيته ملاذاً آمناً لعشرات القادة القساميين، من بينهم الشهيد المهندس يحيي عياش والقائد العام لكتائب القسام محمد الضيف والقائد الشهيد إبراهيم المقادمة، وعشرات المؤسسين من مجموعات القسام الأولى في الوحدة المختارة".
واكتفى الحاج عايش -الذي يكبر شقيقه سناً- بعدما كانت تخنقه العبرات بقوله: "حياة الحاج كانت كلها خيرا، كان يحب الجميع والجميع يحبه"، مؤكدًا على أن شقيقه كان يساعد في إيواء أبناء الحركة ويعمل على تسهيل خروجهم من قطاع غزة للسفر.
وأشار الحاج عايش إلى أنه حضر بعض الاجتماعات التي كانت تعقد في بيت شقيقه مع قيادة الحركة الإسلامية، وأكد على أنه قابل وشقيقه الإمام الشهيد حسن البنا على أرض خان يونس وصليا وراءه صلاة العصر في المسجد الكبير.
وأشار الحاج عايش أن شقيقه الفقيد أشرف على بناء العديد من المساجد في مدينة خان يونس والتي لا زالت قائمة حتى الآن وتحتضن المصلين، مثل مسجد حليمة ومسجد المصطفى، حيث كان من يدعمون هذه المساجد ويمولون عملية البناء يثقون بأمانته وإخلاصه.
ويعتبر الحاج عايش النجار شقيق الفقيد من أوائل الرجال الذين عملوا على تأسيس الدعوة في فلسطين وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وكان الحاج محمد يعتبر شقيقه الأكبر الحاج عايش أستاذه ومعلمه الأكبر.
عاصر القادة
من جهته، قال القيادي والمؤسس في الحركة عبد الفتاح دخان: " إن الفقيد عاصر قادة العمل الإسلامي في فلسطين، أمثال الشيخ الشاعر أحمد فرح عقيلان والشيخ محمد أبو سردانة، ومن خارج فلسطين الشيخ محمد فرغلي، وكامل الشريف، والشيخ سعيد رمضان، والشيخ عبد الحكيم عابدين".
وذكر في حديثه "للرسالة نت" إن النجار رافق الشيخ الشهيد أحمد ياسين في رحلته الدعوية والجهادية الطويلة، وشارك معه في تأسيس الجامعة الإسلامية، وجمعية المجمع الإسلامي، وجمعية الرحمة الخيرية، ومستشفى دار السلام بخان يونس.
وأوضح دخان رفيق درب الفقيد أنه كان يتمتع بسماحة خلقه وابتسامته الطيبة، وأنه كان دائماً يمثل عامل تجميع ضد الفرقة، ويعمل على حل أي مشكلة يواجهها.
وأشار إلى أن النجار المنحدر من عائلة فاضلة متدينة اكتسب هذا النهج من الطفولة، وعندما أصبح شاباً زكّى هذه السيرة للعائلة وذلك بانتسابه لجماعة الإخوان المسلمين التي رأى فيها الطريق الأمثل للنهج الإسلامي والسلوك فيه والانتماء إليه.
وتحدث دخان عن صفات الفقيد بقوله: "شهدنا فيه خصائص الصحابة من خلق وسماحة وشجاعة وطيب أصل"، مشيداً بعائلة المرحوم التي جعلت منه قائداً عظيماً.
واجتمع مجلس شورى حركة الاخوان المسلمين عام 1987 في بيته، وكان اسم الحركة آنذالك" حمس" وتم الاتفاق على تغيير الاسم ليصبح " حماس" وذلك بحضور القادة المؤسسين السبعة للحركة.
والتحق الفقيد بالجيش الفلسطيني عند دخول الانتداب البريطاني في الأربعينيات، ثم تركه في بداية 1947، قبل أن يذهب إلى مصر ويمكث فيها 7 شهور، وتزوج هناك، ورزق خمسة من الأولاد وأربعة من البنات.
ولادته وأعماله
وولد الحاج محمد عبد خطاب النجار "رحمه الله" في مدينة خان يونس عام 1927، في عائلة متواضعة تتكون من ثلاثة أخوة وأختين, ثم كبر حتى أصبح في ريعان شبابه، ونظراً لسوء الأحوال الاقتصادية فتح الحاج بقالة ليبيع فيها الحبوب والطحين، يعيل بها أسرته، واشتهر معظم حياته بأنه كان نحالاً يبيع العسل، حيث كان يحرص المواطنون على شراء العسل المميز منه.
ومثّلَ النجار مدينة خان يونس في الهيئة الإدارية الأولى للإخوان المسلمين في قطاع غزة فترة الخمسينات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
وشارك الفقيد النجار في تأسيس المجمع الإٍسلامي فرع خان يونس كعضو مع شقيقه الحاج عايش النجار الذي كان يرأس هذه الجمعية بالإضافة إلى الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وآخرين، وكان هذا باكورة العمل الإسلامي والدعوي والاجتماعي والجهادي، وخرّج المجمع شباباً وقادة عظاماً ساروا على نفس النهج الذي رسمه لهم النجار.
وأسس النجار بالتعاون مع عدد من إخوانه مستشفى دار السلام في خان يونس، إضافة إلى تأسيسه جمعية الرحمة الخيرية التي ظل على رأس عمله فيها كرئيس لإدارتها حتى وفاته, ولم يغلق باب بيته في وجه يتيم أو محتاج, بل كان يفتحه على مصرعيه، ويستقبل الفقراء ويساعدهم بكل ما يملك، حتى لو كلفه ذلك قوت يومه وعائلته حتى لا يرد محتاجاً خماصاً إلى بيته.
وشارك النجار الشيخ أحمد ياسين في رحلته الدعوية والجهادية الطويلة، وكان ساعده الأيمن في تأسيس الجامعة الإٍسلامية بغزة, وكان عضو مجلس أمنائها حتى وفاته، وقال رئيس مجلس أمناء الجامعة جمال الخضري في كلمة له يوم وفاة الفقيد "البركة تحل علينا حينما يحضر الشيخ الجليل، ونشعر بأن شيئاً كبيراً ينقصنا عندما يتغيب عنا".
بدوره، قال ابن شقيق الفقيد تيسير النجار "أبو حذيفة": "كان عمي قرآناً يمشي على الأرض، إنساناً متواضعاً وحنوناً، يوقر الكبير ويحنو على الصغير ويعامل الجميع بحنان دفاق".
وأضاف أبو حذيفة في حديثه "للرسالة نت " إن عمه كان السبّاق في مشاركة الجميع أفراحهم وأتراحهم وتقديم الواجب، ومد يد العون للمحتاجين من أبناء العائلة وغيرهم، إضافة إلى مشاركته الفاعلة في الإصلاح بين العائلات وحل مشاكلهم.
وذكر أن كثيراً ما تنازل أصحاب الحق عن حقهم كاملاً إكراماً لحضور الحاج النجار، وكان يسعد عندما يعيد الحق لأصحابه ويصلح بين المتنازعين، كما حدث في إحدى جلسات الصلح بين عائلتين بعد حادث أودى بحياة طفل وحيد لأهله وتشددت عائلته في مطالبها، إلى أن جاءت " الجاهه" وعلى رأسها الحاج محمد النجار، وسامح أهل هذا الطفل العائلة الأخرى وتنازلوا عن مطالبهم إكراماً لحضور هذا الشيخ الجليل.
حياته العائلية
وعن حياة الفقيد داخل عائلته، أشار أبو حذيفة إلى أن الحاج النجار كان باراً بأهله واصلاً لأرحامه، مستشهداً بموقف حصل مع عمه في آخر أيام مرضه، قائلاً:" بعدما ازادات حالة عمي سوءاً في عيد الأضحى أشار لمن حوله بأن لديه كلاماً غير قادر على إخراجه، وأحضروا له ورقة لكي يكتب عليها ما يريد، وكتب عليها – لا تنسوا أخواتي في الأضحية- "في إشارة إلى أنه وبرغم مرضه يحرص على إيصال الحق ووصل أرحامه".
وأثناء مرضه، حتى آخر أيامه كان الحاج النجار يمارس دوره التربوي وذلك بتعليم حفيديه الشابين علاء وحمادة الملازمين له في رحلة مرضه يعلمهما الأذكار والأدعية المأثورة ويدعوا لهما بالخير والذرية الصالحة.
وأكدّ أبو حذيفة أن عمه فرح كثيراً بالتغيير الذي حدث مؤخراً في الربيع العربي، خاصة بعد سقوط مبارك وزين العابدين والقذافي، وفي أيامه الأخيرة دعا الله أن يفرج عن أهل سوريا واليمن، وأن يريهم انتصارات كما الدول الأخرى، مشيراً إلى أنه كان يستبشر بثورات الربيع العربي ويقول" إن هذا سيكون بداية لسقوط الحكم الجبري، ويتمنى سرعة تحقيقه".
وقال أبو حذيفة نقلاً عن لسان عمه:" نفخر نحن كفلسطينيين أننا أول من أحدث التغيير في هذا العصر" في إشارة إلى الحسم العسكري الذي شمل قطاع غزة عام 2006.
وأنهى أبو حذيفة كلامه بأن عمه كان متفائلاً إلى أبعد الحدود، وفي أحلك الظروف كان يقول لمحدثيه عندما يشعر أن اليأس تسلل لقلوبهم" توكلوا على الله .. توكلوا على الله".
وبالرغم من توفر المال عنده، إلا أنه كان يولي المحتاجين عليه، فلم يبنِ لنفسه بيتاً ورفض كل ما قدم له من أجل بناء بيت أو استئجار شقة، حتى باع قطعة الأرض التي ورثها من والده وبنى عليها بيتاً متواضعاً.
وحصد النجار زرعه قبل وفاته، فأكرمه الله بمبشرات وانتصارات على صعيد القضية الفلسطينية، فشهد تحرير غزة، وفوز حماس في الانتخابات التشريعية، وحسماً ثورياً أنهى حالة الفوضى السائدة في القطاع آنذاك، وبسالة وصمود المجاهدين في حرب الفرقان، وشاء له القدر أن يكحل عيونه برؤية الأسرى المفرج عنهم في صفقة وفاء الأحرار وتقبيلهم والاطمئنان عليهم برغم مرضه، حيث زاره الأسير المحرر القائد يحيي السنوار في نفس يوم الإفراح عنه.
وشيع الآلاف من أبناء قطاع غزة جثمان الحاج النجار بعد عصر يوم الجمعة من المسجد الكبير وسط خان يونس، وتقدم الجنازة رئيس الحكومة بغزة إسماعيل هنية، والنائب الأول لرئيس المجلس التشريعي أحمد بحر، ولفيف من قادة حركة حماس والإخوان المسلمين، إضافة إلى نواب من المجلس التشريعي، وقيادات من الفصائل الفلسطينية.
وقبل مواراته الثرى، نظمت حركة حماس تأبيناً استُعرض فيه أبرز محطات الحاج النجار، وتخلله كلمات لعدد من قيادات الحركة، إضافة لكلمة رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية.
وخلال كلمته، أكد أبو العبد هنية أن هناك قرارات مصيرية في تاريخ الحركة الإسلامية اتخذت خلال اجتماعاتهم تحت سقف بيت النجار، مشيراً إلى أن النجار كان علماً من أعلام الأمة ومؤسساً متواضعاً وصاحب همة عالية.
وأثنى جميع المتحدثين من القادة على الحاج النجار، وذكروا مناقبه الكثيرة التي يشهد لها الجميع رغم ضعف جسمه ونحوله وسنه الكبير، وأكدوا جميعاً على أن الأمة الإسلامية تفتقد شيخاً جليلاً وقائداً عظيماً لطالما ضحى بروحه وماله من أجل رفعة هذه الأمة وخدمة هذه القضية.
وترك النجار خلفه آثارًا وأفكارًا كثيرة، فالعظيم من الناس يولد كما تولد عامة الناس، وقد يموت كما تموت عامة الناس، ولكنه يكتسب العظمة بما يترك من آثار وبما يخلد في العقول من أفكار، ويكفيه فخراً وشرفاً أن الرعيل الأول من المجاهدين والقياديين والسياسيين هم من تلاميذه.