د. يونس الأسطل
( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (
( البقرة : 197 )
قضى الحجيج مناسكهم، فقضوا تَفَثَهم، وأَوْفَوْا نذورهم، وتطوَّفوا بالبيت العتيق، ثم عادوا أدراجهم إلى أهليهم وديارهم، فهل نرى أثر الحج على غالبيتهم، أم يا تُرَى يعودون سيرتهم الأولى؟!.
لا شك أن الحجاج فريقان، فمنهم من يريد الحياة الدنيا وزينتها، ومالها في الآخرة من خَلاقٍ ولا نصيب، ومنهم من يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وَقِنا عذاب النار، فآتاهم الله ثواب الدنيا، وحُسْنَ ثواب الآخرة، ذلك أن مَنْ كان يريد حَرْثَ الآخرة يزدِ الله له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا يُؤْتِهِ منها، وماله في الآخرة من نصيب، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، وكان الله سميعاً بصيراً.
إن هذه الآية تتحدث عن جوانبَ من الرسالة الأخلاقية للحج، ثم تُغْرِي بعموم التقوى؛ فإنها خير الزاد على الإطلاق ، فهي بَلَاغُنا إلى الآخرة، وهي مَطِيَّتُنا إلى المغفرة والجنة، وأنْ تأتوا آمنين يوم القيامة، فلا يحزنَكم الفزع الأكبر، ولا تسمعوا حسيس جهنم، وتتلقاكم الملائكة بالتهنئة، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون.
إنها تبدأ بالإخبار عن زمن الحج، كونه في أشهر معلومات، أيْ يعرفها العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، ثم تأمر من شرع فيهن بالحج أن ينتهي عن الرفث والفسوق والجدال مدة الإحرام، لكن النهي هنا جاء بصيغة النفي؛ لإفادة أن المؤمنين يبادرون إلى الإمساك عنها، فلا ترى لها أثراً في زمان حجهم أو مكانه، فكأنها منتفية الوقوع أصلاً؛ لكمال الالتزام بتلك الآداب والأحكام.
أما الرفث فهو كل قبيح من الأفعال والأقوال، ويدخل فيه ما تعلق بالنكاح دخولاً أولياً؛ فإن سورة البقرة نفسها قد عَبَّرَتْ بالرفث عن الإفضاء للنساء ومباشرتهن، فقال سبحانه:" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ .. " البقرة(187)، وقد وصفته بالقبيح لما كان انتهاكاً لحرمة الصيام، وهنا يكون عدواناً على محظورات الإحرام.
وأما الفسوق فهو مطلق المعاصي، وهي تنصرف ابتداء إلى محاذير الإحرام، مِنْ لُبْسِ المخيط، أو تعاطي الطِّيب، أو قص الشَّعْر والظُّفر، أو الانشغال بصيد البَرِّ، فقد حُرِّمَ عليكم صيد البَرِّ ما دمتم حُرُماً، بل إنه لا يحلُّ الأكل منه ما دام قد صِيدَ من أجله، كمن نزل ضيفاً وهو محرم على بعض المقيمين هناك، فخرج يصطاد قِرَىً لهم ... إلخ
وإذا أردنا أن نحمل الفسوق على إطلاقه؛ فإننا نراه في كثير من الأفعال التي نَعَتَها القرآن به، كما نجده في آثام من أهلكهم ربهم من الفاسقين.
إن أول الفاسقين هو إبليس؛ فقد كان من الجن، ففسق عن أمر ربِّه، حين قال:" لم أكن لأسجد لبشرٍ خلقته من صلصال من حمأٍ مسنون". الحجر (33)
وأما ثاني الفاسقين فهم اليهود الذين نَسَوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون، وقد قال في حقِّ أصحاب السبت منهم: ".. وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ "، وأضاف :" .. وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" الأعراف (163، 165).
بل إن القرآن الكريم قد جعل الفسق عاماً في أكثر أهل الكتاب يهوداً ونصارى، قال عز وجل:".. وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ " آل عمران (110)، وقال سبحانه في حقهم:" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ" المائدة (59).
ثم نجد هذا الفسوق عاراً يُجَلِّلُ المنافقين من أمتنا؛ ففي سورة التوبة، " .. إن المنافقينَ هُمُ الفاسقين" الآية (67)، وفي سورة المنافقون نفسِها: "سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " الآية (6).
ثم إن فرعون وملأه وقومه من أسوأ الفاسقين، فقد استخفَّ بتسع آياتٍ إليه وإلى قومه فازدادوا بذلك فسقاً، كما استخفَّ قومه فأطاعوه؛ إنهم كانوا قوماً فاسقين، وانظر في هذا سورة النمل(12)، والقصص(32)، والزخرف(54).
فإذا جئنا إلى فعل الجوارح وجدنا القذف فسقاً، كما في سورة النور(4)، والتنابز بالألقاب كذلك، كما في الحجرات(11)، والاستقسام بالأزلام، وهو الضرب بالقِداح لمعرفة الربح والخسارة، أو النصر والهزيمة، ومثله الضرب في الرمل، أو قراءة الفنجان، وكأنها تعلم الغيب، والبديل هو صلاة الاستخارة، وقد قال سبحانه:" وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ، ذلكم فِسْق .." المائدة (3).
وكذلك ما ذبح على غير اسم الله، قال سبحانه:" .. أو فِسقاً أُهِلَّ لغيرِ اللهِ به" وقال كذلك:" ولا تأكلوا مما لم يُذْكَرِ اسمُ الله عليه، وإنهُ لَفِسْق.." والآيتان في الأنعام (145)، (121).
ومن ذلك الإضرار عند كتابة الديون والعقود، سواء كان ذلك الإضرار بالمُقْرض أو المستدين، أو كان بالكاتب أو الشاهد، قال سبحانه:".. وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ.." البقرة(282).
ولعل أسوأ الفسق كائنٌ في ترك الجهاد، وعدم الحكم بما أنزل الله، وقد جاء في هذا الثاني:" وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" المائدة(47).
بينما تأكد الأول في تاريخ بني إسرائيل عندما قالوا لسيدنا موسى عليه السلام:" فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " فقال عليه الصلاة والسلام:" قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ" المائدة (24 – 26).
لذلك فلا غرابةَ أن يبشر النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ حَجَّ فلم يرفث، ولم يَفْسُقْ، أن يخرج من ذنوبه، ويرجع كيوم ولدته أمه، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهو أن يكون حال صاحبه بعده أفضل منه قبل الحج.
وأما الجدال، وهو الخصومة والملاحاة التي تستفزُّ غضب الإخوة والجُلَساء، فهو خُلُقُ ذميم، وتظهر خُطُورته حين نعلم أن الإنسان كان أكثر شيءٍ جدلاً، كما في الكهف(54)، وأن العرب قوم خَصِمون كما قال الله فيهم:".. مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ "الزخرف (58).
ولعل أسوأ الجدال ما كان في التردد في ملاقاة العدو عندما يُغِيرُ علينا، ويوشك أن يغزونا في عُقْرِ دارنا؛ كما قال عز وجل عن بعض أهل بدر""يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ " الأنفال (6).
إن البديل عن هذه الأخلاق الذميمة في الحج وغير الحج أن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتناجى بالبر والتقوى، وهي التواصي بالحق، وبالصبر، وبالمرحمة، وقد دلَّ عليه قوله تعالى في آية المقال:" وما تَفْعَلُوا من خيرٍ يعلمهُ الله".
ثم أمرنا في الآية أن نتزود من الخيرات، وأن نستكثر منها، فإن خير الزاد التقوى؛ ذلك أن الحاج قد أدرك مدى الحاجة إلى الزاد في سفر الدنيا؛ إذْ إن كثيراً منهم يأتون من كلِّ فجٍّ عميق، ولا مريةَ في أن السفر إلى الآخرة أشقُّ وأبقى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ولا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، فإنهما زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً، وخير أملاً.
ثم وجَّه الخطاب لأولي الألباب، وحَذَّرهم نَفْسَه وعقابه جل جلاله:" واتقونِ يا أُولي الأَلْباب"، فإن غيرهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوىً لهم؛ إذ لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، ولهم أعينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها.
وقد ركَّز السياق على التقوى هنا كثيراً، فقد جاء في الآية السابقة على آية المقال:".. واتقوا اللهَ، واعلموا أنَّ اللهَ شديدُ العقاب" الآية (196).
وجاء بعدها:".. ومَنْ تأخَّر فلا إثمَ عليهِ لمنِ اتقى، واتقوا الله، واعلموا أنكمْ إليهِ تُحْشَرون". الآية (203).
هنيئاً لحجاجنا ما تدربوا عليه من الأخلاق، وما أَلِفُوا من الطاعات والعبادات، وما وَطَّنوا أنفسهم عليه من التزود بالتقوى، ونبارك لهم المغفرة والجنة إن شاء الله.
والله ولي المتقين
1
2