قائد الطوفان قائد الطوفان

قصص قصيرة

رشا فرحات

ستائر سوداء

تفتح أختي الستائر.. أضحك منها.. تقول إنه وقت النوم.. هي لم تعتد على تلك الستائر السوداء التي فتحت أمام عيناي منذ عشرة أيام، وما زالت كل ليلة تسدل ستائر غرفتي في وقت النوم خوفا من ضوء الشمس المتسلل في الصباح.. وأنا ما زلت أضحك.. لم أعتد أيضا على تلك العتمة.. أتلمس صفحات الكتاب القابع هنا بجوار سريري.. منذ ذلك اليوم الذي يسبق عملية فقدت فيها عينياي.. كان ذلك قبل عشرة أيام خلت.. أتلمس الصفحات البيضاء فقد أصبحت سوداء فجأة ككل الصور المفتوحة أمامي منذ ذلك الوقت، وتلك السطور التي شارفت على الانتهاء في كتابي المغبر على الرف لم تكتمل، وبقي طرف الورقة مطويا على آخر سطر، وهناك في مكان لا أعرفه خط رسمته تحت بعض الكلمات لم يعد لها وجود بعد الآن، وتلك الألوان المفروشة في خزانتي لثياب قديمة ملونة، أو مزركشة.. نظيفة أو حتى متسخة.. تعكس ضوءا آخر على وجهي.. أختي تقول إن اللون الوردي أجمل وأنا كنت أراه كذلك.. أتلمس ما بقي من عيناي: جفنان محملان ببعض من رموش باهتة تنسدل يوما بعد يوم بصورة أكبر وأكبر، وكأنها تعلن إفلاسها وعدم جدارتها في العمل.. أتلمسها.. أبتسم.

لم يعد للألوان معنى حين اختزلت كلها في لون واحد، وكتابي تدفقت فوق صفحاته ألوان الحبر الأسود فجأة كتلك التي فتحت أمام عيناي فجأة وبدون مقدمات.. أسود.. أسود.. أسود.. عالم بدون ألوان، عالم لونه أسود.

صبر غريب

صحوت من نومي في وقت مبكر فجر ذلك الصباح التالي لتلك الفجيعة، وكنت أظن أنه لا فجر سيتجلى في بيتنا بعد الآن.. ألقيت نظرة ثقيلة على فراشها المجاور لفراشي.. انتفضت فجأة مذعورا وقد فرغ الفراش من صاحبته.. شعرت بالخوف؛ فذكرى الأمس وصرخاته المتتابعة ما زالت تغرس أثارها في رأسي، وصورة أطفالي الثلاثة المحمولون على نعش واحد لم تفارق أحلامي تلك الليلة السابقة رغم حقنة المخدر التي أعطاني إياها الطبيب حتى أقوى على الهدوء، وتجرع الأمر بسلام وأن أخلد إلى النوم، وزوجي الصامتة تلك تكاد تخنقني بصمتها.. ترى ماذا فعلت في ليلة السابقة؟.. هل قضتها تطوف في أرجاء المكان الخالي من صرخاته؟.. كل ما أذكره أنها رفضت أن تأخذ حقنة مخدر مثلي، ورفضت الخلود إلى النوم.

ألج إلى خارج غرفتي مهزوزا بدموع مختنقة.. أفتح الباب بوجل.. برعب.. أبحث عنها في أروقة البيت.. أدخل المطبخ: واقفة كما الجبال تقطع بيدها شيئا.. ارتعبت.. إنها تطبخ.. تبتسم لي.. تلقي تحية الصباح.. البيت فارغ.. فلم يأت أحد من المعزين حتى الآن، وساعات الفجر في أولها.. نظرة من عينيها تذهب الألم.. تبتسم مرة أخرى.. مجنونة تلك المرأة تلقي تحية الصباح بمرحها المعتاد.. ألم تخسر بالأمس ثلاثة أطفال مثلي؟.. من أين تأتِ بهذا الصبر، وذلك الثبات؟.. تضع أمامي فنجان القهوة، وترتشف من فنجانها رشفة، وتتمتم، كعادتها صباح مساء، وحتى الآن ما زالت تتمتم.

البث المباشر