غزة - أمل حبيب
ضربات قلبه كانت تنادي باسمه وتردد "ياريت يكون فيك النفس يابا" .. بحث عنه بين الجثث الممزقة.. وبين ملامح شوهتها آلة الغدر وأصابع سبابتها ما زالت مرفوعة, وبعد ان شاهد الأشلاء المتناثرة والتي لم يبق من أصحابها سوى النجوم العسكرية, اختلفت نبضات فؤاده وبدأ يتمتم :" يا ريتك يا ابني شهيد".
رحلته البحث بين الحياة والموت لم تطل بعد أن وصل الشرطي فؤاد الزربتلي إلى فلذة كبده أمين , رآه ممدا كنومه المعتاد.. صرخ الأب المفجوع "يابا أمين.. حبيبي يابا" ولكنها كانت نومة الموت.
احتضنه بين ذراعيه.. متذكرا الحضن الاول حينما ضمه إلى صدره (باللفة) فرحا بولادته وهو يردد الله اكبر على مسامعه .. ملامحه لم تختلف كثيرا بين اللقاء الأول والأخير, فبراءة وجهه ما زالت جلية رغم الدماء النازفة.
انتهى الحضن الأخير الذي دام طويلا وهو يمسح جبين ابنه أمين ويقبله , ويردد إنا لله وإنا إليه راجعون وكأن الوالد استرجع فيه شريط ذكرياته مع الشهيد.
توجهنا إلى بيت عائلة الزربتلي بحي الشجاعية في الذكرى الثالثة لاستشهاد ابنها الشرطي أمين حتى لا ننسى بشاعة السبت الأسود.
لوح بيمينه وابتسم
ملامح وجه الوالد وهي تبكي ابنه الشهيد أمين في مجزرة السبت الأسود في السابع والعشرين من كانون الاول من عام 2008 رسمت لوحة من أصعب المشاهد الإنسانية التي امتزجت فيها ألوان الألم والصبر والظلم والصمود.. استهدفت خلالها طائرات الاحتلال عددا من المقار الامنية التابعة للشرطة الفلسطينية ومنها مقر (الجوازات) حيث يعمل فؤاد الزربتلي وابنه الشرطي أمين, استرجع فؤاد (أبو علي) لحظاته الأخيرة بابنه وهو يقول: كان عليه دورة تنشيطية لمدة أسبوع (...) بطبيعة عملي في قسم الرقابة والتفتيش كنت ألمحه من بعيد ولكنه في العادة كان يتجنب الحديث معي أثناء العمل, صمت قليلا وكأنه عاد ليتذكر تلك الابتسامة التي أوصلها له ابنه قائلا: استغربت من أمين وهو يسلم علي من بعيد ويبتسم ويعيد السلام أكثر من مرة.
على غير العادة لوح أمين بيمينه مبتسما لوالده , فشخصيته الخجولة كانت تمنعه من اصدار أي حركات او مشاغبات أثناء العمل.
لم يكن أبو علي على علم بانه اللقاء الاخير بابنه الصغير وكأنه يحيه على تربيته الطيبة له التي اوصلته الى طريق الشهادة.
كان هدوء والدة امين والتي تجلس بجوار صور ابنيها الشهيدين ملفتا للنظر أثناء حديث الأب عن لحظاته الأخيرة مع الشهيد. فللثكلى تجربة سابقة مع فراق الابناء وهي عند ارتقاء ابنها معتصم في صيف 2004 أثناء دورة عسكرية لكتائب القسام في جبل الشعف استهدفتها طائرات الاحتلال .
"عشت حميدا ومت شهيدا" هي الكلمات الوحيدة التي استطاع لسان الام أن ينطقها حينما رأت ابنها المدلل ابن الثامنة عشرة ربيعا شهيدا , ألقت عليه نظرة الوداع واحتضنت محاولة ان تخفي دموعها ولكن امومتها خانتها حينما حملوه على الاكتاف فذرفتها ألما على فراقه.
واليوم وبعد ثلاث سنوات تسترجع أم علي بعض الذكريات بينها وبين امين وتقول وهي تبتسم: كان دايما يمزح معي ويحترمني وحركاته الطفولية كانت تضفي جو جميل على الحياة, وتقول تسنيم شقيقته بعد أن سبقت البسمة كلمتها: بعد ما يخلص فترة رباطه ليلا أو دورة عسكرية بيجي يقرمش الشيبس بلبسه المدني ولا كإنو عمل اشي (...) رغم صغر سنه كان حريص على حفظ أسرار عمله".
عطر ودماء بقايا الأحباب
لطالما حلمت أم علي أن ترى ابنها أمين بلباس (الرباط) (وخصوصا العصبة التي نقش عليها راية التوحيد واللثمة التي تغطي وجهه ولا تظهر منها سوى عينيه), وفي أحد الليالي انتظرته أمام باب الغرفة التي يخرج منه خفاء حينما ينام الجميع ويتسلل على أطراف أصابعه ليسهر على حدود البلاد ليحمى الأرض والأهل ويرفع كلمة الحق عاليا , خرج البطل مصدوما حينما رأى والدته تبتسم وقد تكحلت عيناها برؤية طفلها وقد أصبح مجاهدا , وقال بعد أن احمرت وجنتاه :" يمه ايش بتعملي هنا؟..روحي نامي " , عيونها ما زالت تتأمله وهي تجيب :"بدي أحضنك يمه ", ثم وضعت يدها على رأسه وهي ترقيه وتردد :" أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ".
تأثر أمين بشقيقه معتصم الذي استشهد قبله بأربعة أعوام , وكأنه حمل المسؤولية لإكمال مشوار شقيقه الجهادي ، فانضم إلى صفوف كتائب القسام في العام 2006م , وعمل في مجال الاعلام حيث تم تكليفه بمتابعة قسم التصوير في المكتب الإعلامي لكتائب القسام.
لم يبق من رائحة معتصم وامين سوى الذكريات وبعض الملابس القديمة التي تلطخت بدمهما الطاهر, ويقول والد الشهيد:" أصحاب أمين تقاسموا ملابسه ومقتنياته الخاصة (...) منهم من احتفظ بقطعة من ملابسه الممتلئة بدمائه , حتى حذاؤه الي برجلو بدهم يشدوه ", وأضاف بعد ان ترحم على صغيره :" كان يحب التعطر كثيرا , ما زلت أحتفظ بزجاجات العطر التي وجدتها بحقيبته يوم استشهاده".
بعد استشهاد معتصم وامين ظل شقيقهما الاكبر علي وحيدا ولطالما تحدث مع والدته عن فقدانه لإخوته مرددا :" اشتاق لإخوتي (...) يمه نفسي بأخو ".
حلمه بدا صعب المنال ولكن بعد ثلاث سنوات رزقه الله بطفل اسماه معتصم , وتقول والدته :" الحمد لله عوضنا الله بمعتصم وغدا سيعطينا أمين ".
مازال المكان الذي استشهد فيه أمين يؤثر على والده كثيرا , فمنظر الجثث والدماء مازال عالقا بذاكرته , وأصبح يبتعد عنه خلال فترة عمله ويقول :" أتألم كثيرا حينما أنظر للمكان (...) أحاول المشي من منطقة اخرى تلافيا لاسترجاع الذكريات المؤلمة".
انتهت زيارتنا لمنزل عائلة الزربتلي ولم تنته حدود صبر الوالدين وهما يواسيان نفسيهما بالقول :" شرفنا الله باستشهاد ابنائنا .. وسيأتي يوم ونثأر فيه لدمائهم".