قائد الطوفان قائد الطوفان

الضفة تستعد لاستقبال رمضان بالدموع والخشوع وبقية امل !

نابلس- وكالات

ما إن تعلن مآذن المساجد في فلسطين أن غدًا هو أول أيام شهر رمضان المبارك؛ حتى تبدأ صيحات التكبير والتهليل بالانطلاق من حناجر المسلمين، مستبشرةً وفرحةً بقدوم الضيف الكريم والزائر الذي طال انتظاره.

كبار يرجعون بالذاكر إلى الوراء.. إلى أيام (رمضان زمان).. ورجال يتبادلون التهاني، ويأخذون بعضهم بالأحضان والقبلات، وأطفال يلعبون، ويركضون في الشوارع على غير عادتهم، وشباب وفتيات يتبادلون رسائل الجوالات والإيميلات تهنئةً بحلول الشهر الفضيل.

كغيرها من البلاد العربية تتشابه فلسطين إلى حدٍّ كبير في مظاهر الشهر الفضيل وعاداته، غير أن ما يميِّزها وينغِّص عليها فرحتها هي ممارسات الاحتلال التي أضحت جزءًا من حياة الفلسطينيين وأصبحت تدخل في أدق تفاصيلهم.

الاحتلال في المشهد الرمضاني

آلاف العوائل الفلسطينية غيَّب الاحتلال الصهيوني أحدًا من أبنائها عن مائدتي السحور والإفطار، فبيْن جداران كل منزل ألف قصة وحكاية، بطلها إما شهيد أو أسير اختطفه الاحتلال من بين عائلته.

عائلة "البرغوثي" من رام الله ما زالت تنظر ابنها "نائل" الأسير منذ أكثر من 31 عامًا في السجون الصهيونية، وعائلة "منصور" التي لم يفطر معها ابنهم "أكرم" أكثر من 32 رمضان، وعوائل أخرى مسحت بالكامل من أحياء غزة كعائلة "السموني" التي فقدت 33 من أبنائها في حرب غزة الأخيرة، وكذلك الحال مع عائلة "الداية" التي استشهد 17 فردًا من أبنائها.

وعوائل أخرى في قطاع غزة يهل عليها شهر رمضان، وهم ما زالوا يتخذون من الخيام منزلاً، ومن قطع الصفيح بيتًا، ومن الحطب والخشب تنورًا، بعد أن هدمت القوات الصهيونية أكثر من 15.000 منزل خلال العدوان الأخير، وتركت ساكنيها من غير مأوى.

"أم بكر بلال".. حكاية أم فلسطينية من مدينة نابلس لها من الأبناء خمسة؛ اختطف الاحتلال "أربعة" منهم: "عثمان" معتقل منذ العام 1993م ويقضي حكمًا بالسجن المؤبد 5 مرات، و"بلال" معتقل من العام 1997 ويقضي حكمًا بالسجن المؤبد 27 مرة، و"عبادة" اعتُقل عام 2002 ويقضي حكمًا بالسجن 11 عامًا، و"بكر" المعتقل إداريًّا منذ سنة ونصف، وجميعهم من عناصر "كتائب القسام" جناح "حماس" العسكري.

تقول "أم بكر" الذي تُوفي زوجها قبل عدة أعوام: يعتبر شهر رمضان بالنسبة إليَّ شهر الأحزان وشهر "تفتيح المواجع".. على مائدة كل سحور وفطور تذرف دموعي عليهم.. حنيني إليهم لا يوصف.. في كل ركعة أدعو الله أن يكونوا بيني في رمضان القادم.. عسى الله أن يجمعني بهم جميعًا قبل أن أرحل عن هذه الدنيا".

"نور الدين دروزة" عجوز سبعيني اغتالت القوات الصهيونية ابنه البكر "صلاح الدين" عام 2001 وابنه الآخر "عماد الدين" عام 2002، رحلا عن الدنيا، بعد أن تركا له عشرة من الأحفاد.

 

 

 

يقول الحاج "أبو صلاح": "صلاح وعماد لا يغيبان عن بالي ولا لحظة.. وعند دخول شهر رمضان يشتدُّ شوقي وحنيني إليهم.. أُداري دمعتي وأعتصرها في عيني حتى لا تنزل أمام أحفادي أبناء الشهداء.. أحاول أن أعوِّضَهم عن النقص، وأن أسدَّ مكان من غابوا ونجمعهم جميعًا على مائدة إفطار واحدة".

ويضيف "أبو صلاح": "أرجع بذاكرتي إلى الوراء يوم أن كان صلاح وعماد أطفالاً.. وأتذكَّرهم تمامًا وهم يقبِّلون يدي وجبهتي عند دخول شهر رمضان.. وكذلك يفعلون مع والدتهم أم صلاح.. الله يرضى عنهم ويرحمهم".

حلم الصلاة في الأقصى

ويشدُّ آلاف الفلسطينيين الرحال للصلاة في المسجد الأقصى، وخاصةً أيام الجمع خلال "رمضان"، بالرغم من كل الإجراءات والممارسات الصهيونية التي تفرضها قوات الاحتلال حول المسجد الأقصى لمنع المصلين من الصلاة فيه في شهر رمضان؛ إلا أن عددًا قليلاً ممن يحالفهم الحظ ينجحون في الوصل إلى الأقصى، كما تمنع قوات الاحتلال المواطنين الذين لا يحملون بطاقة الهويَّة الصهيونية الزرقاء أو من تقل أعمارهم عن (45) عامًا من دخول الأقصى.

الشاب "إيهاب معتصم" وهو من سكان إحدى قرى "رام الله" يقول عن الصلاة في الأقصى خلال رمضان: "أصبحت الصلاة في المسجد الأقصى حلمًا بالنسبة لكثير من الشبان الفلسطينيين، حتى غدَت الصلاة في المسجد الحرام في مكة أو المسجد النبوي في المدينة المنورة أسهل بمائة مرة من الصلاة في الأقصى".

ويضيف "معتصم": بيتي لا يبعد عن المسجد الأقصى سوى بضعة كيلو مترات حتى إن قبة الصخرة الصفراء تبدو واضحةً من على سطح منزلي.. لا يمكنني أن أتخيل أنه بالرغم من ذلك لا أستطيع الصلاة في الأقصى".

في محاريب الصلاة

تضيق المساجد في فلسطين خلال شهر رمضان بالمصلين، وتبدأ جموع الصائمين تتوافد على تلك الجوامع من كل شارع وحي وزقاق، كبارًا وصغارًا.. شيبًا وشبابًا.. نساءً وفتياتٍ.. الفقير والغني.. في مشهد روحاني مؤثِّر، وعند دخولك أحد تلك المساجد ترى الجميع منشغلاً بين قارئ للقرآن وذاكر لله، وبين سامع لموعظة أو متصدق بصدقة أو رافع يديه يلهج لسانه بالدعاء.

وتشتهر مدينة نابلس بكثرة مساجدها، وخاصةً المساجد القديمة التي يعود بناء بعضها إلى العصر الفاطمي والأيوبي؛ كمسجد النصر ومسجد البيك ومسجد الساطون ومسجد الحنبلي، ويعتبر مسجد "الخضرة" في البلدة القديمة أحد أكثر المساجد شهرةً في المدينة؛ فهو يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ المساجد الدمشقية القديمة بمئذنته القديمة التي تشبه مئذنة المسجد الأموي، وبساحته ونافورة الماء التي تزيِّن وسطه، كما تنبعث رائحة زهرة الياسمين والبخور التي تعطِّر أجواء المكان.

يخشع جموع المصلين الذين تقاطروا من جميع أحياء المدينة للصلاة خلف إمام المسجد الشيخ "ماهر الخراز" صاحب الصوت الندي الذي يرقق القلب ويزيل عنه ما علق به من أدران الدنيا، كما تتوافد جموع المصلين على مسجد "أم سلمة" الكبير في نابلس للصلاة خلف الشيخ "عمار قاطوني" صاحب الصوت العذب، وهو الذي حصل على المرتبة الأولى  على العالمين العربي والإسلامي في مسابقة حفظ القرآن الكريم، كما تتخلل صلاة التراويح المدائح النبوية والأناشيد الدينية والمواعظ.

عادات وعبادات

 

وتتميز مدينة نابلس عن بقية مدن الضفة الغربية بزيارة الأرحام والروابط الاجتماعية القوية؛ حيث يسبق الشهر الفضيل زيارة الأقارب في شهر شعبان، وهي عادة متعارف عليها بين أبناء المدينة بـ(الشعبونة)، كما تتواصل زيارة الأرحام خلال رمضان، وغالبًا ما تترافق تلك الزيارات بالإفطارات الجماعية بين الأقارب وتبادل الهدايا والمساعدات المالية والألعاب للأطفال، وهو ما يُعرف بين أهالي نابلس بـ(فقدة رمضان) وهي من العادات الحسنة التي يخص فيها الرجال أرحامهم من النساء.

وغالبًا ما تجتمع الأسر الفلسطينية على موائد رمضان التي تزينها أشهى المأكولات والحلويات والعصائر، وتعتبر طبخة "المقلوبة" و"المنسف" و"الملوخية" و"اللبن المطبوخ" و"الأوزي" من أشهر المأكولات الفلسطينية، وتزيِّن تلك الموائد المقبِّلات والسلطات بأنواعها العربية والإفرنجية، بالإضافة إلى الشوربات المختلفة.

كما تشتهر مدينة نابلس بحلوياتها المنوعة كـ"الكنافة" و"الفطير بالقشطة" و"الفطير بالجينة" و"بين النارين" و"القطايف" و"الهريسة" و"لقمة القاضي" و"البقلاوة"، حيث تعتبر الحلويات النابلسية ماركةً مسجلةً في جميع المدن الفلسطينية حتى وصل صيت تلك الحلويات إلى الدول المجاورة، كالأردن التي افُتتح فيها بعض الفروع لأشهر معدِّي الحلويات النابلسية.

وعند تجوالك في أسواق نابلس تتعالى أصوات الباعة بعبارة "الله وليك يا صايم" وينتشر باعة العرق سوس والتمر هندي وعصير الليمون وعصير الرمان على كل مفترق في المدينة الذين يصطف الناس على شكل طوابير طويلة حتى يصلك الدور.

كما تجذبك المخللات بأنواعها المختلفة (مخلل الخيار واللفت والباذنجان والزهرة والفلفل والزيتون ومخلل اللوز)، وتدفعك للشراء رغمًا عنك من طريقة حسن عرضها وألوانها المختلفة، كما يعتبر الرطب أو التمر من الأصناف الأساسية على موائد رمضان.

وتشهد الأسواق التجارية في فلسطين حركة نشطة، بعد طوال عام من الركود نتيجة الإغلاق الصهيوني وانتشار البطالة بين الشباب وضعف القدرة الشرائية.

ويصر الفلسطينيون على انتزاع فرحة قدوم الشهر الفضيل من بين فكَّي الاحتلال الجاثم على الأراضي الفلسطينية، ويأملون في أن يأتي رمضان القادم وقد تحرَّرت البلاد وأطلق سراح جميع الأسرى والمعتقلين من السجون الصهيونية وتحقَّقت الوحدة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية.

حنين ودموع وخشوع.. بهذه المشاعر يعيش الفلسطينيون شهر رمضان المبارك بين حنين إلى ماضٍ جميلٍ لم يكن الاحتلال فيه جزءًا من المشهد الرمضاني، وبين دموع على فراق أحبة كانوا يومًا بين جموع المصلين وعلى موائد الإفطار، وبين خشوع في محاريب صلاة تراويح وبين زويا منازل معتمة، أضاءتها جبهات خاشعة تسجد لله.

 

 

البث المباشر