شمال غزة/ كمال عليان
في زحمة وسط مخيم جباليا، وفي زقاق ضيق يقابل مسجد العودة إلى الله، يستقر أقدم سوق في شمال غزة، وأحد معالم الشمال ولوحاته الشعبية العريقة.
وجوه تشع بدفء الترحيب وسط سوق معسكر جباليا تروي قصص أجيال متعاقبة من الباعة الذين دخلوها، كثيرون خرجوا منها إلى العالم الآخر، وآخرون ما زالوا يقدمون ابتساماتهم للمتجولين في أروقة السوق.
في هذه البقعة المركزية يحتشد الباعة والزبائن والمحلات التجارية و"البسطات" والأصناف المتنوعة من البضائع، وكأنها لوحة بمختلف الألوان... لوحة تنبض بالحياة الفلسطينية البسيطة بكل ما فيها من كدٍ وبحثٍ مضن عن الرزق، وذكريات عبرت في مساماتها درجات لونية متعددة، وبات من الصعب أن يمر يوم دون أن يُلقي أبطال تلك اللوحة على هذا السوق تحية الصباح، "الرسالة" تجولت في السوق وحاولت رسم هذه اللوحة بطريقتها:
أيام زمان
على مقربة كان أحد باعة "العوامة" يقف خلف فرنه ويطهي حبيباتها البيضاوية الصغيرة التي تتراقص داخل "السيرج" لتنشر رائحتها الشهية، وتدعو الزوار لشرائها دون الحاجة لصوت بائعها الذي تصبب العرق من جبينه، وبدت عليه علامات العطش والإرهاق، بفعل حرارة المقلى التي أنسته أنه في فصل الشتاء!.
عبد الله الكحلوت (30 عاماً) قال وقد بانت على وجهه علامة الرضى بما قسّمه الله له:" الناس ما يزالون متمسكين بسوق المعسكر"، موضحا أن هذا المحل كان لوالده قبل أن يتوفى، وهو مصدر رزق عائلته.
وأضاف الكحلوت:" أصبحت هناك علاقة ودية على مدى أعوام طويلة بيننا وبين الزبائن، وأعرف طلبهم قبل أن يطلبوه أحيانا".
اختفى صوت البائع بين صيحات الزبائن بطلباتهم فانتقلت "الرسالة" إلى الحاج أبو حمزة عودة (54 عاما)، الذي يعمل في "محل خياطة" منذ أكثر من عشرين عاماً، وبدا كأنه يناجي آلة الخياطة البدائية التي يستغرب كل من رآها أنها لا زالت على "قيد الحياة".
فبمجرد أن فرغ الخياط عودة من خياطة ثوب لزبونه جلس ليحتسي كوبا من الشاي الساخن، وبدأ يحكي عن "أيام زمان" :" تجمعني مع هذا المكان ذكريات رائعة لا تنسى وأنا واحد من هذا السوق الذي أصبح له معنى هاما في حياتي".
ويرى الحاج عودة أهمية كبرى في التمسك بالأسواق التراثية، مبينا أن كثرة تواجد المحلات الجديدة أبعدت الناس عن المحلات القديمة والعريقة التي تحتوي على كل المستلزمات التي يحتاجها الشخص.
كل ما يلزمك هنا
بضعة خطوات في سوق المعسكر كانت تكفي لاقتناص ملاحظة بأن الباعة هناك من كافة الفئات ومن مختلف الأعمار شيباً وشباباً!..ضجيج وزحام لا تكاد تجد لك موضع قدم فيه، بينما تفوح في المكان روائح نفاذّة مختلطة لتشكل "كوكتيل" فريد، لو بحثت في الموسوعات لن تجد له سمياً.
كل ما يخطر ببالك من البضائع تجده في هذه المحلات والبسطات بالرغم من ارتفاع أثمانها... تبقى لكل بضاعةٍ روّادها وزبائنها.
الحاج أبو محمد جمعة (65 عاما) وهو صاحب محل قديم للحلاقة، قال بصوت فيه وهن الشيخوخة :" أنا متعلق بالسوق كثيرا، ومتمسك بهذا التراث العريق، وسأورث مهنتي لأبنائي وأحفادي من بعدي".
ويكمل هذا الحلاق:" رغم صغر مساحة المحلات المتواجدة في السوق والتي لا تزيد مساحتها على أمتار بسيطة إلا أنه يتوفر فيها كل ما يلزم"، مؤكدا على أن هذا الأمر يشعر الزبون بالارتياح للتعامل معهم لسنوات عدة.
أبو محمد ابتسم وهو يستعيد شريط الذكريات التي يرويها على الدوام لكل من يلتقيه: "لطالما كانت لي ذكريات جميلة في هذا السوق ولا أنسى جاري في السوق أبو خالد الذي توفي قبل خمسة أعوام يوم كنا نأتي ونفطر معا يوميا، ناهيك عن ذكرياتنا المؤلمة مع جنود الاحتلال".
وحول علاقته مع جيرانه من الباعة الآخرين يقول أبو محمد وهو يرتشف كوبا من الشاي:" العلاقة التي تجمعني معهم هي علاقة حميمة، إذ أننا نلجأ إلى استعارة ما يلزمنا من بعضنا البعض"، مشيرا إلى أن هذا الأمر نابع من المحبة الكبيرة التي جمعتهم منذ أعوام طويلة.
مشكلات ولكن!
غير بعيد عن محل أبو محمد كان الحاج السبعيني أبو رياض صاحب محل صغير لبيع الأدوات المنزلية وتصليحها، يسمع أخبار الصباح، وبمجرد وصول "الرسالة" بدأ يتحدث عما يزعجه في السوق :" من أكثر المشاكل التي تكدر صفو الحياة هنا هو الزحام وتعالي أصوات البائعين، بالإضافة إلى مياه الصرف الصحي خاصة في الشتاء".
ويتحدث العم أبو رياض عن مشكلة أخرى تتمثل في تردد الزبائن في التبضع من السوق أحياناً لأنهم يجدون صعوبة في إيقاف سياراتهم، مما قد يعرضهم للمخالفات المرورية.
مع ارتفاع صوت المؤذن منادياً لصلاة الظهر أخذ بائع الملابس أبو حسن (45عاما) بجمع بضاعته المعروضة خارج دكانه الصغير تأهبا لأداء الصلاة في المسجد المجاور.
عند انتهائه من مهمته وضع مفاتيح دكانه في جيبه وهو يقول:" الحمد لله على هذه النعمة التي رزقني الله بها...اللهم أدمها من نعمة وأحفظها من الزوال".... قالها وهو يقبّل باطن يده وظاهرها، ثم أضاف بابتسامة صافية: ماذا أريد أكثر من ذلك؟!