ميدل ايست- الرسالة نت
المشكلة الكبرى في مسألة القراءة الإلكترونية هي أن الناس لا يفضلون كثيرا القراءة من فوق الشاشات، وأنهم يفضلون القراءة في الورق. ولكن حتما ستتغير عادات الناس مع تغير الأجيال، وحتما ستختفي صناعة الورق لتحل محلها صناعة الألياف البصرية، وتصبح جبال السيليكون هي الغابات الجديدة التي يرعاها البشر في المستقبل القريب، وليس البعيد.
فالأجيال الجديدة التي تبدأ الآن حبوها هي التي ستحسم قضية القراءة ما بين الورقية والإلكترونية.
وأعتقد أن النشر الإلكتروني لن يلغي النشر الورقي، على الأقل خلال العشرين عاما القادمة، ولكن هذا النشر الورقي سيختفي تدريجيا بعد ذلك، ودون أن يقصد الناشرون أو القراء ذلك.
فبعد أن تنتشر المعارف الإلكترونية والكتب الإلكترونية، ويكثر قراؤها والمتعاملون معها، لن تصبح هناك حاجة إلى الكتب الورقية، أو النشر الورقي.
أيضا عندما تجد الأجيال التالية كل ما تحتاج إلى قراءته منشورا على شبكة الإنترنت أو على أقراص مدمجة (C.D) وتصبح هناك ألفة وعادات جديدة على القراء لم تعرفها الأجيال الحالية والسابقة، فإن ذلك سيكون مدعاة لاختفاء الورق، والنشر الورقي، دون أن يشعر الناس بذلك.
ستصبح الكتب الورقية بعد ذلك مثل لفائف البردي ورقاع الجلود وأوراق الكتان، والكتابة على الأحجار، لأن عصر الورق سينتهي حتما، فنحن نعيش العصر الرقمي الذي تتضح آثاره في كل شيء الآن.
وقد كشفت حادثة انقطاع كابلات الإنترنت في البحر المتوسط مؤخرا، عن شدة ارتباطنا بهذه الشبكة، وأنا أشبه تلك الحادثة بحريق مكتبة الإسكندرية القديمة، ولكن من حسن الحظ أنه تم التغلب سريعا على تلك المشكلة، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، بل أفضل، قبل انقطاع تلك الكابلات.
دعونا لا نحكم على الأمور بذائقتنا نحن القديمة، ولكن نتخيل ما سيحدث للأجيال الجديدة الطالعة التي أصبح الكمبيوتر وشبكة الإنترنت من أهم مفردات حياتها، ثم نرى هل سيكون للورق والكتب الورقية مكان مهم في مكتباتهم ومعارفهم وحياتهم بصفة عامة؟
دعونا نرى إلى أي حد يتفاعل الشباب الآن مع القراءة النصية على أجهزة الموبايل أو المحمول، كيف يقرأ النصوص وكيف يكتبها، بل تصلني الآن قصائد وقصص قصيرة على جهاز الموبايل الخاص بي، وهو إبداع كتب أو صنع بطريقة مكثفة ويجتهد صاحبه لتستوعب تلك الشاشة الصغيرة أكبر قدر ممكن من كلمات القصيدة أو القصة.
ولعلنا نتذكر أن التلفون المحمول الذي رُخص له لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1983، خرج وقتها من يقول "إن نصف الأمة أصابه جنون التلفون المحمول" ووصف آخر الحدث بالوقوع في غرام التلفون المحمول، وظهرت خدمات جديدة مثل خدمة الرسائل القصيرة، وأصبح المراهقون مهووسين بإرسال الرسائل النصية، وأصبحت قواعد اللغة والهجاء غير مهمة على الإطلاق، ولعلنا نجد الحال نفسه في اللغة العربية التي تكتب بها لغة الإس إم إس، ورسائل البريد الإلكتروني، والمحادثة على النت.
وتساءل البعض عن الآثار الجانبية لهذه التكنولوجيا الجديدة، وهل هناك مخاطر صحية من موجات الإشعاع بالقرب من الأذن؟ وغيرها، ولكن بات واضحا أن هناك حديثا يدور عن انتهاء زمن التلفونات التي على المناضد في المكاتب والحجرات (أو التليفونات الأرضية)، وأن تحولا سيحدث في فضاء المنضدة إلى الفضاء الرمزي، (أو الواقع الافتراضي) خاصة بعد ربط التلفونات المحمولة بالإنترنت. وكثرة حدوث التحليق في هذا الفضاء يخلق نوعا من الإدمان نبه إليه أحد مرشدي العقاقير فقال إن أجهزة الحاسب أكثر إحداثا للإدمان من الهيروين.
أيضا يتدخل في الأمر قدرة القارئ على قراءة ما على الشاشة سواء كانت شاشة المحمول أو شاشة الكمبيوتر، فما زال الكثيرون منا غير قادرين على القراءة الطويلة على الشاشات. أنا شخصيا لا أستطيع أن أقرأ رواية أو بحثا طويلا بأكمله على الشاشة، ولكن قد يستطيع ذلك الأجيال الطالعة، خاصة إذا كانت هذه الرواية أو البحث به الكثير من الصور أو الموسيقى أو لقطات الفيديو أو الصوت أو غير ذلك من المالتي ميديا.
هنا لا بد من تأمل كيفية انحراف المسار الإبداعي ليأخذ أشكالا أخرى غير المتعارف عليها في الطباعة التقليدية، وقد بدأت في الأفق العربي تجارب جديدة بالفعل لكتابة رواية أو قصص باستخدام المالتي ميديا، وباستخدام تقنيات الروابط أو اللينكات أو الهايبر تكست (النص المتشعب) بدلا من النص الخطي (بداية وسط نهاية) مثلما نلاحظ في أعمال الكاتب الأردني محمد سناجلة: شات وصقيع، وهو إبداع رقمي فضاؤه ذلك الفضاء الذي يتخلق عندما يدخل المرء إلى الإنترنت أو الحاسب، وبطله يتحلل من واقعه المادي ويذوب في الواقع الجديد الذي تتيحه الشبكة أو الحاسب، ويصبح جزءا منه، فيكون اللاعب الذي بداخل لعبة الحاسب مثلا.
وهي أعمال إبداعية تتداخل فيها فنون عدة إلى جانب فن الكلمة، حيث نجد فن الصورة والموسيقى، وغيرها، وهي بعامة لا زالت تجارب في بدايتها، ولم أر كثيرا من المبدعين أقدموا عليها، حتى أننا في اتحاد كتاب الإنترنت العرب عندما أجرينا مسابقة للنصوص الرقمية، لم يتقدم عدد كبير لهذه المسابقة، والذين تقدموا لم تكن أعمال أغلبهم سوى أعمال عادية منشورة على الشبكة العنكبوتية، أو أعمالا لا تتحقق فيها شروط الإبداع الرقمي بالمفهوم الذي حددته المسابقة.
إن القراءة الإلكترونية لا تزال حديث عهد في أوساط القراء بعامة، ولا تزال الشركات الكبرى مثل (شركة روكيت للكتاب الإلكتروني، وشركة سوفت بوك للقراءة) تحاول صنع شاشات صغيرة محمولة، ومن خلال برنامج مايكروسوفت للقراءة على سبيل المثال من الممكن أن تصبح قراءة الكتب الإلكترونية أمرا سهلا. ويسجل جهاز مايكروسوفت للقراءة مبيعات طيبة. لكن لم يتضح حتى الآن إذا كان الناس يقرؤون الكتب من خلاله بصورة ملحوظة أم لا؟
وعموما فكما قلت لا تزال التجارب التي تجعل من القراءة الإلكترونية شيئا ممتعا ومريحا في طور التطوير والتجريب، ولكن متى ثبت جدواها الكبرى وقلَّ سعر الأجهزة الخاصة بها وسهلت طريقة شحنها بالكهرباء أو بالخلايا الضوئية أو الشمسية، فإن الناس ستقبل عليها بطريقة غير مسبوقة.
إن الوجه الآخر للقراءة هو الكتابة، والكتابة في الوقت نفسه ليست الطريق الوحيد لإنتاج النصوص المكتوبة، ولكن هناك تقنيات تحويل الخطاب المنطوق إلى نصوص مكتوبة، كما ظهرت تقنيات تحويل النصوص المكتوبة إلى خطاب منطوق. وهنا يتوقع أحد الباحثين الفرنسيين (هو عالم الاجتماع دان سبيربير) نهاية نشاط الكتابة، وأيضا نشاط القراءة.
وتعد السرعة من مزايا تقنيات تحويل الخطاب المنطوق إلى نص له فائدة واضحة، حيث إن هذه الطريقة أسرع عدة مرات من الكتابة اليدوية أو حتى الطباعة التي هي أبطأ من الخطاب المنطوق، ولكن في الوقت نفسه فإن الكتابة باليد تسمح للكاتب بالتعبير عن الفكرة بطريقة غنية وأكثر سيطرة مقارنةً بالخطاب المنطوق. فالكاتب يمكن أن يكتب ويصحِّح ويعيد الكتابة، وفي النهاية ينتج نصا خاليا من الترددات وحيرة تصليحات الكلام الشفهي.
وعلى كل حال فإن الباحث الفرنسي يعلن قرب انتهاء عصر القراءة والكتابة، وإمكانية الدخول إلى المعلومات المخزونة بشكل شفهي وسماعي، حيث الحاسبات الناطقة التي تمكننا من استبدال كل اللغة المنطوقة باللغة المكتوبة (الباء تدخل على المتروك الذي هو اللغة المكتوبة).
ويمضي الباحث الفرنسي في تأملاته قائلا: سنكون قادرين على تخزين واسترجاع المعلومات ببساطة من خلال النطق والاستماع، والنظر إلى الرسومات، وليس في النصوص.
وإذا أثبتت تقنيات تحويل الخطاب المنطوق إلى نص مكتوب فعاليتها ومناسبتها، فقد ينتهي ذلك بالناس إلى ترك نشاط الكتابة جملة بدون أن يقرروا عمل ذلك، أو حتى يلاحظوا أنهم فعلوا ذلك.
أما تحويل النص إلى خطاب منطوق، ففكرته تقوم على أن أحد الأشخاص عنده نص مكتوب يُقرأ له، بدلا من أن يقرأه بنفسه. كما هو الحال مع بعض الناس الأغنياء أو أصحاب السلطة الذين يستعملون السكرتيرات لكي يملين عليهن ولا يكتبون بأنفسهم، وإذا كان عندهم نصوص تقرأ لهم من قبل قرَّاء مستأجرين (أو كما نرى مع العُميان).
ولعلنا نلاحظ انتشار المكائن الناطقة الآن في العالم، مثل رسائل الرد الآلي بالهاتف، (وهو ما سوف يُعمم بعد ذلك، ولكن من خلال عرض النصوص على الشاشة لتقرأ آليا، وهو موجود حاليا من خلال بعض المواقع، وبعض الأقراص المدمجة الناطقة).