تقترب الأزمة بين روسيا وأوكرانيا من ذروتها، حيث أسرعت روسيا في إنهاء انتشارها العسكري غير المسبوق على الحدود الأوكرانية، بالإضافة إلى الانتشار العسكري الكثيف للقوات، وقدرات مختلفة (طائرات حربية متطورة في بيلاروسيا، وسفن حربية في البحر الأسود، ومدفعية وصواريخ وقوات خاصة، وقتال إلكتروني وسيبراني)، كما نشر الروس قدرات تدل على استكمال الإعداد للقتال، مثل وحدات لوجستية ووحدات تابعة للهندسة الحربية، وقوات جوية ومعدات طبية ميدانية.
في المقابل، تشير تقديرات الولايات المتحدة والغرب أن الغزو الروسي لأوكرانيا محتمل، وعلى هذه الخلفية، ضجت الساحة الدولية الأسبوع الماضي، بنشاط دبلوماسي، ماكرون وشولتز وجونسون، تنقلوا بين موسكو وكييف وواشنطن، في محاولة أخيرة للتهدئة ومنع وقوع الحرب.
الهدف المباشر للروس هو إزاحة الحكومة الحالية واعتقال القيادتين السياسية والعسكرية، وإذا فشلت كل الجهود الدبلوماسية وقرر الرئيس بوتين القيام بالغزو، فليس واضحاً أي مخطط سيختار، القوات التي جمعها حول أوكرانيا تمنحه مرونة ومجموعة واسعة من الاحتمالات، في السيناريو الأخطر، يمكنه استخدام كامل القوات التي نُشرت، وتوجيه ضربة جوية إلى مراكز السلطة، وفرض حصار إلكتروني، وشنّ هجمات سيبرانية تشل القدرة الأوكرانية على السيطرة والعمل، ويمكن أن يجري عمليات برية للالتفاف على القوات الأوكرانية في شرق البلاد في مواجهة قطاع دونباس والسيطرة السريعة من اتجاه بيلاروسيا على العاصمة كييف.
يحذر الأميركيون من أنه في مثل هذا السيناريو سيسقط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، وستنشأ أزمة إنسانية وسياسية خطِرة، ومن جهة ثانية، من المحتمل أن تكون روسيا غير راغبة في الاحتفاظ بمناطق واسعة ومواجهة ثورة محلية وحرب عصابات، وهي تفضل مخططاً محدوداً يشمل إطلاقاً كثيفاً للنار وهجمات سيبرانية واسعة، وسيطرة برية على المحافظات الانفصالية الموالية للروس في شرق أوكرانيا ودونتيسك ولوغانسك.
في جميع الأحوال، القرار يعود إلى شخص واحد هو الرئيس بوتين، الذي يحتفظ بكل الأوراق لنفسه، أهدافه في أزمة “على عتبة الغزو” التي خلقها تتعلق بإصراره على أن يثبت أن روسيا دولة كبرى لا يمكن تجاهُلها، الجمهور المستهدف هو مواطنو روسيا الذين يريد توحيدهم حول شعار واحد وتحويل الانتباه عن المشكلات الداخلية.
يريد بوتين ألّا تنضم أوكرانيا أبداً إلى حلف الناتو؛ وألّا يتوسع الحلف شرقاً نحو مناطق نفوذ تُعتبر روسية؛ ووضع حدود للسلاح الاستراتيجي للولايات المتحدة في أوروبا، في الواقع، المطالبة القصوى لبوتين هي إعادة الوضع العسكري في أوروبا إلى العهد السوفيتي ما قبل سنة 1989، ولا مجال لقبول الغرب بذلك.
اختار بوتين التوقيت المناسب له، ضعف الولايات المتحدة كما بدا في الانسحاب من أفغانستان، والأسعار المرتفعة للطاقة والتي ستواصل الارتفاع على خلفية الأزمة، فوائض كبيرة في العملة الأجنبية (نصف تريليون دولار) تسمح لروسيا بمواجهة عقوبات متوقعة، جيش شهد عملية تحديث وإصرار كبير على استخدامه، كل هذا يفرض على العالم التعامل مع روسيا ومع مطالبها.
حتى لو حقق بوتين جزءاً صغيراً من هذه المطالب، فإنه سيسجل لنفسه إنجازاً استراتيجياً مهماً. السؤال المطروح: إذا جرت تلبية مطالبه بصورة مقنعة تتيح له من وجهة نظره، إعلان انتصاره والنزول عن الشجرة، فهل سيقبل بذلك من دون أن ينفّذ تحركاً قوياً في أوكرانيا؟
ثمة مصلحة لبوتين في استرجاع المجد القديم، وأن يثبت كجزء من هذا الإرث، أن روسيا ليست قوة إقليمية عظمى فقط، بل هي قطب ثالث ومهم إلى جانب الولايات المتحدة والصين.
في الأيام الأخيرة حصل الرئيس الروسي على دعم من الرئيس الصيني بشكل دعم علني لموقف موسكو وتعاون روسي-صيني في مجال الغاز، الذي يُفترض أن يعوض حصة السوق الأوروبية التي يمكن أن تخسرها روسيا نتيجة قرارها “إغلاق الحنفية”، أو عقوبات تُفرض عليها.
الغزو الروسي لأوكرانيا، إذا حدث، سيكون عملية عسكرية- برية هجومية هي الكبرى على أراضٍ أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، ومن المتوقع أن تحدث “هزة أرضية” في ميزان القوى، وفي نظام الأولويات على المستوى العالمي، وفي الاقتصاد العالمي، وفي سوق الطاقة.
تأثير الهجوم الروسي المحتمل على الشرق الأوسط:
الارتفاع في أسعار النفط والهبوط في أسهم البورصة يشيران إلى ما هو منتظر إذا جرى توجيه الضربة الروسية بكل قوتها.
الاضطرابات والأصداء المتوقعة لن توفر الشرق الأوسط، وستطرح على الكيان الصهيوني سلسلة من التحديات.
على المستوى الاستراتيجي، من المتوقع أن تقلص الأزمة أكثر اهتمام الولايات المتحدة بتحديات الشرق الأوسط، بينما تسعى الولايات المتحدة لتقليص تدخُّلها في المنطقة من أجل التفرغ لآسيا والمنافسة الاستراتيجية مع الصين، والتي تعتبرها الولايات المتحدة تهديداً تاريخياً للنظام العالمي.
مع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تشكل القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية المهيمنة في الشرق الأوسط، ولديها حلف مع الكيان وعلاقات استراتيجية مع الدول العربية، وهي ملتزمة بالدفاع عن أمنها في مواجهة التهديد الإيراني.
الولايات المتحدة هي التي تضمن حرية تدفُّق النفط من الخليج، ومنه إلى آسيا، ولديها قواعد بحرية وجوية مهمة ووجود واسع في المنطقة، وهي المزود الأساسي بالسلاح، ولكن سجلّت هذه القوة تضاءلاً، في ضوء التحفظات الواضحة عن استخدام القوة في مواجهة الهجمات عليها وعلى حلفائها.
في مثل هذه الظروف، ضرر إضافي يمكن أن يلحق بصورة قوة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتقليص وجودها ونفوذها هي أخبار سيئة، بالنسبة للكيان، مثل هذا الواقع قد ينعكس سلبياً على الاستقرار في المنطقة، وعلى مسعى لجم التهديد الايراني ، وبصورة غير مباشرة على استقرار الكيان وقوتها الردعية في المنطقة.
المشكلة الاستراتيجية الأكثر إلحاحاً اليوم في الشرق الأوسط هي البرنامج النووي الإيراني. والأزمة في أوكرانيا يمكن أن تقوّي ايران التي تريد استمرار المفاوضات في فيينا كي تحصّل على أكبر قدر ممكن من التنازلات من الولايات المتحدة، وفي حال نشوب مواجهة مع الولايات المتحدة، يمكن أن تدعم موسكو مواقف إيران التي تشكل علاقاتها معها وزناً مضاداً للهيمنة الأميركية في المنطقة، ومن جهة ثانية، الإدارة الأميركية في واشنطن، والتي منحت إيران سلسلة الإنجازات في إطار مفاوضات فيينا، يمكن أن تقترح تنازلات إضافية بهدف إعادة إيران إلى الصندوق بأي ثمن، والتفرغ للمواجهة بين القوى الكبرى في أوروبا.
ساحة أُخرى يمكن أن يسوء فيها الواقع في نظر الكيان الصهيوني، هي سوريا، في حال أرادت روسيا توجيه رسائل إلى الولايات المتحدة على حساب الكيان بصورة قد تهدد حرية عمل جيش الاحتلال الصهيوني.
خطر مهم آخر يتعين على الكيان مواجهته، يتعلق بالعلاقات الثنائية مع الدولتين الكبيرتين، فهو من دون شك سيضطر إلى المناورة بين الدب الروسي والذئب الأميركي في ظل أزمة عالمية خطيرة، إذ من المتوقع أن تطلب الولايات المتحدة من الكيان تأييداً واضحاً لمواقفها، وسيكون على الكيان إعطاء الأولوية لعلاقاته مع حليفته الكبيرة والوحيدة، والتصرف مع واشنطن بشفافية مطلقة فيما يتعلق بعلاقاته الضرورية والعملية مع روسيا (من أجل المحافظة على حرية العمل لكبح إيران)، وأن تحاذر من إظهار علاقات قريبة جداً مع موسكو، وهو ما يمكن اعتباره مشكلة في نظر الولايات المتحدة.
في المقابل، من المحتمل في ظروف معينة أن يكون في استطاعة الكيان الاستفادة من فرصة الأزمة والاقتراح على الدولتين الكبيرتين هامشاً لتجسير الفجوات بينهم، وذلك بالاستناد إلى المنصة السياسية الثلاثية التي بُنيت في الماضي بين الطرفين في الشأن الروسي، والاجتماعات الثلاثية التي عُقدت في الكيان على مستوى مستشاري الأمن القومي، كما يستطيع الكيان أن يأخذ على عاتقه جزءاً من العبء الأمني في المنطقة، مثلاً في المجال الاستخباراتي، والأمن البحري، والحرب ضد داعش، والتخفيف قليلاً من أعباء حليفته في وقت الأزمة.