بخلاف حرب لبنان الثانية 2006 وحرب غزة 2008، فإن النخبة الإسرائيلية الحاكمة لم تنتظر في حربها الحالية على غزة انتهاء عملياتها العسكرية، حتى تدرك أنها ولجت إلى ورطة كبيرة، في منذ الآن باتت تعي حجم المأزق، الذي انتهت إليه. فقد اعتقدت دائرة صنع القرار السياسي في تل أبيب أن اغتيال الشهيد أحمد الجعبري، نائب القائد العام لـ " كتائب القسام "، وتفجير ما زعمت بأنه مخزن لصواريخ " فجر "، بعيدة المدى، سيولد ضغطاً نفسياً على " كتائب القسام " يسمح بموافقة قيادة حركة حماس على الشروط التي وضعها وزير الحرب الصهيوني إيهود براك لإنهاء الحرب؛ والمتمثلة في تراجع حماس عن قرارها بتغيير قواعد المواجهة القائمة. ردة فعل " كتائب القسام " كان مفاجئاً للغاية، وتجاوز كل توقعات حكومة نتنياهو؛ مع العلم أنها أخذت بعين الاعتبارات سيناريوهات غير بسيطة.
"ردة فعل " كتائب القسام " كان مفاجئاً للغاية، وتجاوز كل توقعات حكومة نتنياهو؛ مع العلم أنها أخذت بعين الاعتبارات سيناريوهات غير بسيطة.
"
صحيح أن إسرائيل كانت تتحدث دوماً عن لدى المقاومة صواريخ بإمكانها أن تصل تل أبيب؛ ومنطقة " غوش دان "، بشكل عام، التي تتركز فيها أغلبية المستوطنين الصهاينة؛ لكن القيادة الإسرائيلية لم تتصور في الحقيقة أن المقاومة يمكن أن تقدم على هذا الفعل؛ ومما زاد من حالة الإحباط الصهيوني أن صواريخ المقاومة قد وصلت القدس المحتلة، في خطوة تمثل بشكل أساسي ضربة للوعي الجمعي للصهاينة بأسرهم؛ لأنه أظهر إلى أي حد بؤس الرهان على القوة في ترويض المقاومة الفلسطينية وإجبارها على التأقلم مع الخطوط الحمراء التي تحاول إسرائيل إملائها. إن القيادة الصهيونية تدرك تماماً تداعيات التأثير على الوعي الجمعي الصهيوني؛ لما له من تأثير على معنويات المستوطنين من ناحية؛ وتدليل على الضربة القاصمة التي حلم نتنياهو بإنزالها على حركة حماس قد استحالت إلى سهم ارتد على نحر الصهاينة أنفسهم.
لقد بدت مدينة تل أبيب؛ التي يقطنها مليون صهيوني، وهي المدينة التي يطلق عليها الصهاينة " مدينة بدون توقف " في إشارة إلى قوة الحركة والنشاط فيها، بدت كما لو كانت مدينة أشباح، تخلو شوارعها من المارة والسيارات، ومسارحها وحاناتها من المرتادين. أدرك نتنياهو حجم المأزق الذي يعيشه الصهاينة، سيما أن مظاهر الانكسار، التي حلم أن تؤدي حربه على غزة إلى بروزها، باتت أبعد ما تكون عن البروز والظهور.
تخبط ميداني
على الرغم من أن براك ادعى لدى بدء العملية أن الحكومة الصهيونية منحت جيشها كل الوقت اللازم لتنفيذ العمليات الحربية التي تضمن تحقيق الأهداف؛ لكن كل المؤشرات على أن إسرائيل عندما شرعت في هذه الحرب وضعت في عين الاعتبار ألا تتجاوز الحرب أسبوع؛ لكثير من الاعتبارات.
وقد اعتقد نتنياهو أن توجيه الضربات الخاطفة لقيادات حماس العسكرية وضرب ما يعتبرونه " بنى تحتية " للمقاومة، تجعل حماس توافق بسرعة على أي عرض يتقدم به الوسطاء للتوصل لتهدئة تضمن تحقيق الهدف الصهيوني، والذي يعني عملياً تسليم المقاومة بحرية العمل لجيش لاحتلال في قطاع غزة.
"إن الذي يجعل نتنياهو يتردد في أن يأمر بتنفيذ عملية برية هو المخاوف من التورط في وحل غزة، دون أن يكون بوسعه الخروج، دون خسارة
"
وإزاء هذا الواقع، كان الارتباك الصهيوني واضحاً، فمن ناحية يعي نتنياهو أن انهاء الحملة والموافقة على التهدئة في هذا التوقيت سيمس بشعبيته أمام الرأي العام الصهيوني، عشية الانتخابات، مع العلم أنه اعتقد أن شن الحملة سيضمن تحسين فرصه بالفوز، ومن ناحية ثانية فإن توسيع الحرب على غزة يحمل في طياته مخاطر كبيرة، حيث أنه يعني توسيع الحرب، بشكل يقلص من قدرة الكيان الصهيوني على انهاء الحملة بالشكل الذي خططت له، وبشكل يضمن توريطه، ويسمح بتفجر مواجهة إقليمية، ولو على في المجال الدبلوماسي والسياسي، علاوة على تعقيدات دولية. من هنا اتجه قررت حكومة نتنياهو تجنيد 75 ألف جندي في إشارة إلى شن حملة برية على القطاع.
وعلى الرغم من أن الجيش قد أوشك على الانتهاء من تجنيد جنود الاحتياط، ألا أن هناك مؤشرات على أنه يمكن أن تكون هذه الخطوة مجرد ضغط نفسي على حركة حماس للموافقة على الشروط التي وضعتها إسرائيل وأن توقف إطلاق الصواريخ على القطاع؛ لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن تجبر التطورات نتنياهو على أن يأمر بتنفيذ العملية البرية، في مسعى لوقف اطلاق الصواريخ.
تعقيدات العملية البرية
إن الذي يجعل نتنياهو يتردد في أن يأمر بتنفيذ عملية برية هو المخاوف من التورط في وحل غزة، دون أن يكون بوسعه الخروج، دون خسارة، وتتمثل مخاطر العملية البرية في التالي:
أولاً: الخسائر الكبيرة التي يفترض جيش الاحتلال أن يتكبدها خلال العمل البرية، حيث أنه سيكون بوسع المقاومة في ظل تطور قدارتها إصابة المركبات والدبابات الإسرائيلية، مما يعني مقتل عدد كبير من الجنود، وهذا سيرسم علامات الاستفهام حول جدوى العملية أمام الرأي العام الصهيوني.
"بدت مدينة تل أبيب؛ التي يقطنها مليون صهيوني، وهي المدينة التي يطلق عليها الصهاينة " مدينة بدون توقف " في إشارة إلى قوة الحركة والنشاط فيها، بدت كما لو كانت مدينة أشباح، تخلو شوارعها من المارة والسيارات، ومسارحها وحاناتها من المرتادين
"
ثانياً: يعي نتنياهو أنه لا يمكنه إملاء شروطه في أعقاب أي حملة برية، باستثناء حالة واحدة فقط، وهو أن يعيد احتلال قطاع غزة بالكامل، وهذا لا يدعو له حتى أكثر الساسة الصهاينة تطرفاً. وحتى لو تمت إعادة احتلال القطاع، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة، ماذا بعد، إلى أي وقت يمكن أن يمكث جيش الاحتلال، ومن الطرف الذي سيخلفه...واضح أن هذا معضلة كبيرة لا يوجد للصهاينة رد عليها.
ثالثاً: لقد سجل نتنياهو باهتمام كبير وقلق جم ردة الفعل المصرية الغاضبة على الحملة العسكرية على غزة، سيما بعد تهديدات الرئيس مرسي، التي حظيت بتحليل كبير. وأكثر ما يثير قلق أن تتدهور الأمور لدرجة أن يضغط الرأي العام المصري على مرسي لإلغاء اتفاقيات " كامب ديفيد "، التي تمثل عنصراً مركزياً في الأمن القومي الصهيوني. علاوة على أن نتنياهو يعي أنه حتى التأييد الأوروبي يمكن أن يتغير في حال عرضت شاشات التلفزة مشاهد الأشاء للأطفال والنساء في غزة، مما يقلص مكانة إسرائيل الدولية.
من هنا، فإن نتنياهو يواجه بشكل حقيقي أزمة خيارات كبيرة، وأغلب الظن أنه سيستغل أي مخرج يضمن له انهاء الجولة الحالية وعدم التورط في العملية البرية.