حاولت أن تستعطف حنان ملائكة الرحمة بدموع ذرفتها "عيون وقحة"، وكانت تتشبث بين الحين والآخر بأطراف ثوبهم الأبيض وهي تنادي عليهم "سيموت طفلي سيموت.."
حالتها الانسانية دفعت الأطباء إلى توليدها رغم غياب ما يثبت هويتها، وبعد أن وضعت مولودها تركته هاربة، ومستقبل مشوه بانتظاره.
قدراً.. كان لقاؤنا بالطفل الخدج حسام -اسم وهمي- كان كالجثة الهامدة فعلاً دون حضن أمه التي ادعت بأنه سيموت. ملامحه الصغيرة أخفت خلفها مستقبلاً مجهولاً يرقد معه على سرير الايواء في مبرة الرحمة لرعاية الأطفال مجهولي النسب.
وخلال محاولة نبشنا عن تلك التربة الخصبة والتي ساهمت بشكل مباشر في نمو وتزايد عدد الأطفال مجهولي النسب، وقعنا في فجوة عميقة بين التصريح والتلميح لمعظم الجهات التي توجهنا اليها لكشف المستور.
وليس بعيداً عن الأسباب الكامنة وراء ازدياد نسب الأطفال مجهولي النسب كقلة الوازع الديني والانحلال الأخلاقي وتعاطي المخدرات، كان سفاح القربى و"سُترة" بعض الجهات القضائية على مرتكبي الفاحشة في حالات خاصة، وتساهل العيادات الخاصة بتوليد السيدات دون احضار الأوراق الثبوتية أبرز الاسباب التي رصدتها "الرسالة" خلف نمو وازدياد حالات الأطفال اللقطاء في المجتمع الفلسطيني.
"السُترة" أولى
لمسنا خلال استقصائنا نوعا من حظر التعاطي مع الموضوع فأسبابه والخفايا التي أدت اليه مؤلمة بالنسبة لمجتمعنا الفلسطيني المحافظ.
بغرض "السُترة" ان كانت تلك التي لمسناها خلال حديثنا مع الجهات المعنية أو ان كانت السترة المتبعة حفاظاً على سمعة السيدة او الشاب المرتكبين للفاحشة والتي نتج عنها طفل على قارعة الطريق مجهول النسب.
"أغلب حالات الأطفال "اللقطاء" تصل الى المستشفيات والجهات الأمنية بملقط طبيب حول الحبل السري.
"
مدير المباحث الطبية الرائد كمال أبو سلمية قال: "لا ننكر وجود هذه القضية في المجتمع الفلسطيني أحياناً تقل وأحياناً تزيد، وأضاف: "يتم اتخاذ الاجراءات بسرية وتنسيق مع النيابة وجمعية مبرة الرحمة لنعالج القضية بشفافية".
وأكد أبو سلمية أن المباحث تقوم على رقابة المستشفيات العيادات الخاصة وضرورة الابلاغ الفوري في حال وجود حالة ولادة غير شرعية ولم تحضر الأوراق الثبوتية، منوهاً الى أن نسبة الاطفال مجهولي النسب لا تشكل خطراً كبيراً.
سفاح القربى
ليلاً وبعدما غفت العيون تسلل من نافذة حجرتها وهتك عرضها بشهوته الحيوانية التي انسته صلة القرابة الأقوى بينهما، لم تشفع دموع "القاصر" منى -اسم مستعار- لعمها"ز.ك" في العقد الثالث من العمر وسلبها براءتها مبكراً رغم توسلاتها "يا عمو حرام.. يا عمو حرام".
تفاصيل الجريمة السابقة رصدناها من ملفات نيابة غزة، والذي أكد لنا مديرها يحيى الفرا أن الكثير من حالات الأطفال مجهولي النسب ناتجة عن زنا المحارم وفي هذه الحالة يكون كل من الأم والأب معروفين ولكن يودع المولود في المبرة، منوهاً الى وجود حالات مجهولة الأم أو الأب ومعظمها ناتج عن علاقات جنسية بين طرفين بالتراضي.
عقوبات رادعة
وخلال محاولتنا لكشف المستور ومعرفة خفايا زيادة عدد الأطفال المهمشين "اللقطاء" بالمجتمع، اتهمت بعض المصادر المطلعة القضاء الفلسطيني والقانون بالتهاون في قضايا الزنا وعدم فرضها أقصى العقوبات بالمجرمين مما يؤدي الى ازدياد نسبة الفاحشة.
ويؤكد القاضي أشرف فارس أن الخاصية الاساسية للتعامل مع هذه القضايا هي الستر، مشيراً الى أن القانون وضع عقوبات رادعة ويتعامل القضاء مع كل قضية حسب ظروفها وملابساتها الخاصة ويتم تطبيق العقوبة عند أخذ جميع الجوانب المتعلقة بها.
"ما وصل من أطفال مجهولي النسب الى الجهات الرسمية بعد كشف المستور لا تمثل عدداً أمام الحالات التي يحري معالجتها سرياً
"
بدوره اعتبر مدير التدريب والتوعية في الهيئة المستقلة لحقوق الانسان صلاح عبد العاطي أن حالات الاطفال مجهولي النسب لا تعتبر ظاهرة في مجتمعنا الفلسطيني مقارنة بالمجتمعات الغربية والعربية، محذراً من خطورة تزايد نسبة الأطفال "اللقطاء".
جهة ايوائية للمهمش
في بيت الاطفال مجهولي النسب استقبلتنا ابتسامته التي تولد حقداً تلقائياً في قلب كل من رآه على والديه المذنبين بحقه.
الطفل منيب في ربيعه الثالث – اسم مستعار - كان يبحث عن وجه أمه بين الوجوه، حاول تسلق ساق مراسلة "الرسالة" فاختلطت في تلك اللحظة دورها كصحفية بمشاعر الأم ألماً على طفل لفظ قهراً من حياة والديه.
التقينا بمدير جمعية مبرة الرحمة بقطاع غزة مؤمن بركات والذي أكد لنا بأن الجمعية هي جهة ايوائية للطفل مجهول النسب ولا شأن لها بالأسباب وخفايا الحادثة، وقال: "لا نسعى للتعرف على حقائق وخلفية القضية، فالتفاصيل لدى الجهات الامنية المختصة ولا يعنينا بالأمر سوى الطفل ومستقبله".
"وصل الى المباحث الطبية 9 حالات لأطفال مجهولي النسب خلال عام 2012 وما خفي كان أعظم !!
"
"أغلب حالات الأطفال "اللقطاء" تصل الى المستشفيات والجهات الأمنية بملقط طبيب حول الحبل السري" تلك هي افادة إحدى الجهات التي توجهت اليها "الرسالة نت" للبحث حول التربة الخصبة التي تساعد على نمو وانتشار حالات الاطفال مجهولي النسب بالمجتمع الفلسطيني، فكان تساهل العيادات الطبية الخاصة بتوليد عدد من السيدات دون التأكد من شرعية حملهن هو جزء مما كشفه استقصاء "الرسالة نت".
وهنا يكمن التساؤل: هل تشكل العيادات الخاصة.. تربة خصبة لنمو مجهولي النسب؟
وفي هذا السياق أكدت طبيبة في قسم النساء والتوليد بمستشفى الخدمة العامة بمدينة غزة أن المشفى لا يسمح بإدخال أي حالة ولادة دون احضار الاوراق الثبوتية كالهوية أو التأمين الصحي أو حتى عقد القران في حال فقدان الأوراق الأولية، مشيرة الى أن آلية الاجراءات الادارية في قسم التوليد بالخدمة العامة تتسم بالدقة وعدم التساهل عكس ما اتهمتها بعض الجهات.
مؤشر حل
"الرسالة نت" وبعد أن رصدت خفايا وأسباب الاطفال مجهولي النسب، التمست مؤشرات حل من تلك الجهات التي تواصلت معها.
من جهته يرى أستاذ علم النفس الاجتماعي بالجامعة الاسلامية درداح الشاعر أن وجود نسبة لمجهولي النسب في المجتمع الفلسطيني تدعو للقلق وتشكل خطراً على النسيج الاجتماعي لأنها تعكس شكلا من أشكال الانحلال الأخلاقي في مجتمع متمسك بالعادات والقيم الاسلامية.
بينما حمل رئيس نيابة غزة يحيى الفرا عدة رسائل لوضع مؤشرات لتقليص عدد الأطفال "اللقطاء" بالمجتمع الفلسطيني كانت أولها الى وزارة الشؤون الاجتماعية مطالباً اياها بتوفير مأوى للأسر الفقيرة وتحسين وضعها الاجتماعي حتى لا يكونوا ضحية لسفاح القربى الذي يولد عنه.
وبخصوص اتهام عدد من الجهات للعيادات الطبية الخاصة بتوليد السيدات الحوامل بطرق غير شرعية دون ابلاغ الجهات الامنية، قال مدير التوليد بمشفى الشفاء: "أدعو المباحث الطبية الى تشديد رقابتها على العيادات الطبية التي تتردد عليها النساء للإجهاض او للولادة "، وأردف قائلاً: "لابد من تأكد الطبيب في عيادته من الأوراق الثبوتية لأي حالة يقوم بتوليدها".
من جهته قدم مدير جمعية مبرة الرحمة بعض المقترحات والحلول لتفادي زيادة نسبة الاطفال اللقطاء قائلاً: "لابد أن تجتمع كل الجهات الرسمية والاهلية لمحاربة هذه القضية واقتلاعها من جذورها من مجتمعنا الاسلامي المحافظ ".
وحقوقياً طالب مدير التدريب والتوعية في الهيئة المستقلة لحقوق الانسان بضرورة تعاون كل فئات المجتمع على المستويات الرسمية والأهلية والشعبية للتوعية المجتمعية لسكان القطاع لتفادي تفاقم مشكلة الأطفال مجهولي النسب، مؤكداً على ضرورة تطبيق جميع حقوق الأطفال مجهولي النسب الموجودة في القوانين المحلية والدولية ودمجهم في المجتمع.
ولا يمكن الانكار أن واقعنا الفلسطيني أفضل بكثير من أي بلاد أخرى من ناحية الأطفال مجهولي النسب، ولكن في المقابل يجب الاعتراف بان ازدياد نسبة مجهولي الهوية ستدق ناقوس الخطر، لأنه -في الغالب- ينتج عن علاقة محرمة، وهو ما يتطلب تكاتف الجهود وتعاون الجميع من أجل تقليص تلك الحالات.