قائد الطوفان قائد الطوفان

النكبة تأتي بـ "هاجر" إلى غزة !

معاناة الفلسطينين في النكبة 1948 (أرشيف)
معاناة الفلسطينين في النكبة 1948 (أرشيف)

غزة - الرسالة نت - حمزة أبو الطرابيش

أمام باب منزله في مدينة المجدل، يجلس زكريا بصحبة "كانون" النار التي أشعلها بعد أداء صلاة الفجر، وبعث تحياته الصباحية لزوجته "مريم" مرفقًا إياها بطلب "تلقيم بكرج الشاي".

هدأ لهب النار وأصبح جمرًا.. وضع زكريا إبريق الشاي، ودعا زوجته لمشاركته في احتساء كوبٍ قبل أن يذهب إلى عمله. استجابت مريم لدعوة زوجها، وما أن انتهيا إلا حان موعد عمله.

"بتحبي أجيبلك إشي معي وأنا مروّح؟!" يسأل زكريا زوجته المطيعة، فتقوم بخجل وتلبسه معطفه بحكم برودة الجو قائلةً بصوت خافت: "نفسي في العسل يا حبيبي.. ابنك جاي ع باله"، في إشارة إلى وحامها.

تسهّل زكريا إلى عمله بدعوات زوجته "ترجع بالسلامة"، وراحت منشغلة بأعمال بيتها إلى حين وصل موعد إعداد العشاء ، بعضٌ من الزيتون والزعتر وقليل من الزيت وحبات البندورة، وأصبحت جاهزةً تنتظر زوجها.

مرت ساعة ثم أخرى, بدأت خلالها حبات الزيتون تجفُّ وتتجعد، في حين تشكّلت طبقة سميكة متشققة فوق صحن الزيت وتناثرت ذرات الزعتر، ومريم جالسة تنتظر عودة زكريا.

تقلِّب مريم كفيها وتضرب كلتا يديها ببعضهما، وترتسم على وجهها صورة تحكي قلقًا وخوفًا على زوجها الذي تأخر على غير العادة، وفجأةً .. صوت زكريا يظهر قائلاً: "أطلعي يا مريم من الدار اليهود دخلوا"، وهنا تبدأ رحلة الألف ميل.

على عجلة.. تخرج مريم مسرعةً ماسكةً يد زوجها، وتحمل إبريقًا ملأته بالماء، تاركين متاعهم وكل ما يمتلكونه، حيث أن الرحلة لن تتجاوز الساعات ،  وفق تقديرات زكريا الأولي.

في رحلة الهروب يتسيّد الخوف الموقف، والسماء تكتسي بالأحمر بفعل القنابل التي تتساقط على منازل سكان البلدة من قبل الطائرات الحربية (الإسرائيلية)، ويدور زكريا حول نفسه لا يعرف ماذا يفعل.

سلك زكريا -كما غيره من سكان البلدة- طريق البحر المليء بالرياح التي "نفخت" معدة زكريا وزوجته وكذلك جنينها، فخلع معطفه ووضعه على زوجته؛ لتملأ من يسكن أحشاءها بالدف.

يسير الزوجان وتمرُّ الساعات وتستمر مريم في الشرب من إبريق الماء الذي شارف على الانتهاء، مُحاوِلة أن تروي رمقها وصغيرها، وتمشي إلى يسار زكريا وتارة إلى يمينه، وهو لا يكاد يفارقهم خوفا عليهم.

مع اقتراب بزوغ الفجر وصلوا إلى مكان على شاطئ البحر، تجمّع فيه بعضٌ من ذويهم الذين سبقوهم بالخروج من بيتوهم، وتوحّدوا على عقد العزم نحو الاستمرار في المسير نحو الجنوب، خاصة بعد حرق منازلهم.

يدخل اليوم الثاني والزوجة تسير بصحبة زوجها، والشمس تصدّع رأسيهما، والتعب أنهك جسديهما، وما لم يكن بالحسبان أن ينفد الماء، لكن الابريق فرغ بالفعل في الساعات الأولى من الرحلة الطويلة.

فجأة.. تسقط مريم مغشيّا عليها، مستنجدةً زوجها بصوتٍ يغلب عليه التعب والارهاق "ميّة ميّة الولد اللي في بطني يا زكريا".

يقف الزوج مكتوف اليدين، عاجزًا عن سقيا زوجته وجنينها.

كانت مريم تسير ببطءٍ؛ لأنها حامل، حيث أصبحت المسافة بينها ومن يرافقها من ذويها بعيدةً جدًا، الأمر الذي صعّب الاستعانة بأحدهم في توفير قطرات من الماء، لإنقاذ حياتها.

اضطر زكريا إلى حمل زوجته بين ذراعيه علّه يرويها بدفء حبه في ظل عجزه التام عن توفير الماء، في وقت كانت تذرف عيناه دمعًا سقطت على وجه مريم، كان كفيلًا بإشباعها.

يستمر المسير لساعات فاقت تقديرات زكريا، ولا تزال مريم بين ذراعيه فاقدة الوعي تمامًا بفعل العطش، إلاّ أن شابًّا يمتطي حماره صادف طريقهما، وقدم الماء بعد نخوته وشهامته التي روت عائلة زكريا.

دبّت الحياة مجددًا في جسد الرجل وزوجته، ما دفعهم لاستكمال المسير باتجاه جنوب فلسطين، إلى أن انتهى بهم المطاف في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، والتقوا بذويهم هناك.

مبدئيًا.. صنع زكريا بيتًا من سعف النخيل على أطراف دير البلح؛  ليستر زوجته وطفله المنتظر, وبعد أيام قليلة رُزق بمولودة أطلق عليه اسم "هاجر "، ليكون لاسمها نصيب من قصة المعاناة التي عاشها والديها.

وانتقلت العائلة بعد مرور سنة,  للعيش في مخيم جباليا لللاجئين، الذي أقامته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، ولا تزال تسكن الحاجة مريم هناك حتى اليوم, منتظرةً العودة إلى المجدل برفقة ابنتها.

وتؤكد الحاجة التسعينية أنها لم تتجرع كأس الهجرة وحدها، بل إن معظم الفلسطينيين المهاجرين من ديارهم لا زلوا يكتوون بنار ذكرى النكبة.

تمسك بـ"عكّازها" وتشير إلى صورة زوجها زكريا الذي وافته المنية قبل أعوام، ولا تزال تحتفظ بصورته قائلة: " الله يرحمه كان من خيرة شباب فلسطين، ومعنًى للرجولة الحقيقية".

البث المباشر