قائد الطوفان قائد الطوفان

من أدب المقاومة العراقية

يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (12)

فتاة عراقية
فتاة عراقية

بقلم: كلشان البياتي

كسر ـ طرقات متتابعة على الباب الرئيسي – رتابة الصمت الذي كان يخيم على أرجاء البيت، الجميع كانوا شبه غارقين في النوم، فالبرد القارس الذي هجم على بغداد نتيجة تساقط ثلوج كثيفة على مدن السليمانية واربيل، جعل الجميع قابعين في البيت، أسرى في الغرف، تحت البطانيات واللحف وقرب المدافئ.

لم تكن طرقات منتظمة، كانت عشوائية، باغتتني وأنا أعدّ شاي العصر حيث اعتدنا أن نشربه مع قطع الجبن والمعجنات والكليجة التي تعدها أمي تحديداً لشاي هذا الوقت.

استنجت أن طارق الباب ليس رجلاً وإنما صبياً صغيراً. خرجت بنفسي بعد أن تيقنت استحالة خروج أحد غيري، فالبرد أرغم الجميع على الاسترخاء تحت البطانيات.

فتحت الباب، وإذا به حازم ابن الجيران يقف أمامي منتصباً وبيديه قنينة كولا سعة (لتران). قال لي وهو يتلعثم من البرد (خالة سُرى أمي تسلم عليج، تقول عدكم اشويه نفط)، أمهلتُ الصبي وتوجهت نحو المنزل لأتاكد من رقاد أمي، فهي تعشق نوم الظهيرة وتغط بالنوم بمجرد أن تضع رأسها على الوسادة، لأنها إذا كانت مستيقظة فلن أفلت من لسانها، ولن أتمكن من تعئبة القنينة بالنفط خلسةً لإعطائها إلى ابن الجيران، فبسبب صعوبة الحصول على النفط وندرته، وغلو ثمنه صار عسيراً على الكثيرين شراؤه، لذا تخوض أمي حرباً ضروساً للمحافظة على كمية النفط، فرضت قيوداً: ممنوع تشغيل مدافىء النفط عندما تكون الشمس مشرقة، وممنوع إشعالها إذا كانت الكهرباء متوفرة. وتحذرنا من مغبة هدره عند تعئبة المدافئ.

باختصار، بعد الغزو، النفط في الشتاء أصبح بغلو الدم بل أغلى منه.

عندما تأكدت من غفوتها تسللت خلسةً إلى (الحوش الجانبي) وعبأت القنينة للصبي الذي أخذها مني وهو يبتسم ملئ فمه راكضاً نحو البيت.

وقبل أن أصل إلى المطبخ، توالت طرقات أخرى على الباب، كانت ميادة ابنة جارتنا سعاد. قالت لي وهي تلملم جسدها النحيل داخل ستارة نسائية كبيرة الحجم: خالة سُرى، ماما تسلم عليج، تقول بلكت تقرضني خمسين ألف لنهاية الشهر، مريضة تريد تروح للدكتور وبابا ماعند مصرف.

ارتبكت واحترتُ بماذا أجيب، فقد كنت مٌُفلسة، ومنذ خمسة عشر يوماً وأنا لا أملك فلساً واحداً في حقيبتي، الموظف بعد الغزو، يضحك عشرة أيام، ويبكي ما تبقى من الشهر، فالراتب الذي يستلمه يكفي عشرة أيام ويعيش الأيام الباقية على الدين والآجر.

استلمت الراتب، وكانت خمسمائة ألف دينار، سلمت نصفه لأمي، وسددت الباقي للمحلات التي أتسوق منها بعض السلع للبيت ودفعت أجور السيارة التي تقلني للدائرة برفقة هبة وراجحة وسلمى، وراجعت طبيبة أسنان، وحشوت سناً بخمسة وعشرين ألف دينار، خرجت من عندها وأنا أقسم بأغلاظ الإيمان أن لا أحشو سناً بعد اليوم. وحمدت الله إني عانس وتمنيت أن أبقى عانساً طوال حياتي. فلن أحتاج أن أقوم بصيانة سن بخمسة وعشرين ألف دينار وأبقى مفلسة بسبب حشوة سن.

أنا اشعر بالعنوسة فلا أشغل بالي بأحد ولا أفكر أن أجذب أحداً نحوي. ولا أحظى باهتمام الآخرين. كائن شبه مهمل لا يثيرُ انتباه أحدا، لذا لن أهتم لو تآكلت أسناني واحداً بعد الآخر.

ذهبت مخيلتي بعيداً تحديداً إلى ذلك اليوم الذي تورطت فيه ودخلت عيادة طبيبة أسنان خطأً، فقد ظننت أن عشرة الآلاف دنيار أو ثمانية الآلاف دنيار ستكون أجرة كافية لحشو الأسنان، لم يدر بخلدي أن مخالب الأطباء طال وصار يمزق أحشاءنا، صعقتُ والطبيبة تطالبني بثلاثة أضعاف المبلغ.

كانت ميادة ذكية ففهمت أني لا أملك هذا المبلغ الآن. قبّلتها في وجنتيها وقلت لها: حبيبتي ميادة، سلميّ على ماما وأخبريها أني سأدبر لها المبلغ غداً وأنا عائدة من الدائرة.

توقدت صورة هبة في ذهني فأوصلتني إلى إجابة سريعة منقذة، غداً سأقترض من هبة خمسين ألفا وأعطيها لأم ميادة، أدرك أنها مريضة ومصاريف علاجها مكلفة وزوجها عاجز عن تدبير أمور المعيشة لها ولتسعة أطفال أكبرهم ميادة، تبلغ العاشرة من العمر.

أغلقت الباب وعدت لإعداد الشاي، استيقظت أمي، وسألتني عن الطارق على الباب، أنكرتُ حازم وأخبرتها أن ميادة ابنة جارتنا سعاد كانت تطلب حبّة (باراسيتول) لوالداتها المريضة. وسألتني عن عمر ولماذا تأخر وطالبتني أن اتصل به على الجوالّ فاعتذرت لأنّ جوالي بلا رصيد. أسمعتني الموشح اليومي (ما ادري وين تودون الرصيد).

باغتنا عمر ونحن نتجادل، كان منزعجاً على غير عادته. اقترب من المدفأ ودفَّأ يديه، وقال لي: سأدخل الغرفة لأنام. ساءلتُه أمي إن كان قد تناول الغذاء في الخارج أم أقوم بتسخينه له فأجاب أنه لا يريد، ليس جائعاً. سألت عمر عن سبب انزعاجه، فلم يجبني، لكنه أجاب بعد إلحاحٍ شديد.

قال: عندما ترجل من الحافلة مع صديقه وسام، حدث شيء بشع أمامهما. لقد ترجل أربعة مسلحين ـ تقلهم سيارة نوع أوبل ـ من السيارة وأطلقوا النار على شخص كان يتمشى باتجاه بيته فتوفى في الحال، ثم لاذ المسلحون بالفرار.

وقال عمر: احتشد الناس واتصلوا بالشرطة وجاءت دوريتان إلى مكان الحادث وعاينوا الجثة، وبعد أن تأكدوا من استشهاده تركوا الجثة ملقاة علي الأرض وغادروا المكان دون أن يتخذوا أي إجراء.

قصص القتل والخطف في بغداد أصبحت روتينية لا تثير الدهشة والاستغراب. الموت وحده أصبح لا ُيدهش في هذا البلد. الموت المفرد هو ما يدهش. نسترق السمع إلى نداءات المساجد التي صارت تذيع الموتى بالجملة. وفي كل جدار من جدران بغداد، هناك أكثر من لافتة سوداء. لافتة ترفع ولافتة تنزل مكانها.

طلب مني عمر أن أغسل له بنطلونا كان يرتديه مع القميص لأنهما اتسخا حين ركض مع صديقه وسام باتجاه الرجل المقتول. وأنا أضع الملابس المتسخة في الغسالة، عثرت في جيب القميص على أوراق، كان من بينها هوية للأحوال المدنية فيها صورة عمر لكنه باسم آخر هو حيدر فرحان. انصعقت حين اكتشفت أن عمر يحمل هوية مزورة في جيب قميصه، هرولت نحو غرفته وكان قد غطّ في نومٍ عميق، لقيت شقيقي عاصي في الصالة، فأريته الهوية المزورة. تصورته سيغضب، لكنه ابتسم وأعاد لي الهوية. قال لي: ماذا تريدون، يمشي في بغداد واسمه عمر.

وقال: أغلب العراقيين يحملون هويات مزورة في جيوبهم اتقاء شر المليشيات التي أخذت تقتل الناس على الهوية. ومناطق بغداد تقسمت على الأسماء. عمر لا يتمشى في شوارع مدينة الثورة، وكرار لم يزر الأعظمية منذ الاحتلال. لن تعثري على بنت اسمها عائشة في بغداد، ولا على زهراء أو أم البنين، وعلي اختفى من شوارع بغداد وكذلك عثمان والحسن والعباس ومسلم. قبِّلي وجنتي أمك لأنها سمتك سُرى وليس حفصة.

تركني عاصي قائلاً لي: خيةّ، تحتاجين سنوات بعمر الغزو لتفهمي ما الذي حلّ ويحلّ ببغداد.

 

 

كلشان البياتي ـ صحفية وكاتبة عراقية

بغداد المحتلة العانس

البث المباشر