قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: حقائق كشفها الانقلاب

السيسي ووزير الداخلية (إبراهيم)
السيسي ووزير الداخلية (إبراهيم)

بقلم/ محمد كمال (قيادي إخواني)

قبل الاستفتاء على دستور 2012م بأيام التقيت أحد كبار رجال الدولة (من اﻹخوان)، وقلت له: هذه هي المرة الأولى التي يطَّلع فيها الشعب على أركان الدولة ويراها دون حواجز فأريد في جملة واحدة توصيف المؤسسات الآتية: الجيش.. الشرطة.. القضاء؟

فقال لي بتركيز شديد: الجيش نصف قياداته جيدة ونصفها فاسد.

والشرطة كلها (خربانة) والمستعان هو الله.

أما القضاء، فلا أمانَ له ولو على أبواب لجان الانتخابات.

كانت الإجابة مفاجئة لي نسبيًّا حيث عُرف عن هذا الرجل التفاؤل وتخفيف حدة التحديات إلى أدنى حدودها لمحاوريه؛ فكون نصف قيادات "الجيش" فاسدة وتابعة لأمريكا-كما عرفت بالتفصيل فيما بعد- فهذا سقف من الفساد أعلى كثيرًا مما كنت أظنه، وكون "الشرطة" لا أملَ في أي من قياداتها فهذه صدمة تشعرك بحجم التحدي وقتها.

أما المفاجأة الخاصة بالقيادات القضائية، فسببه ما توهمناه من أن الفساد قاصر على مجرد حرصهم على المميزات الواسعة مقابل الولاء، بالإضافة لما هو شائع من عوامل الفساد التي خالطت كل مؤسسات "دولة مبارك"..

أما أن تكون المؤسسة القضائية لاعبًا سياسيًّا، ولها مناوراتها، ولها اجتماعات في الظلام بعيدًا عن أماكن ممارسة سلطتها أمام وتحت أعين الشعب، فهذا كان مفاجئـًا أيضًا، ويختلف هذا مع ما نعرفه عن بعض القضاة المنغمسين في اللعبة السياسية، والتي يمارسونها بكل تفاصيلها التآمرية.

وقبل الانقلاب بعدة أسابيع سألت أحد مستشاري الرئيس (وهو من الإخوان) عن تصوره الشخصي للمرحلة، فحدثني بآياتٍ من الثبات ثم أنهى كلامه بجملة مفاجئة، حيث داعبني قائلاً: لقد جرب جيلنا أنواع المحن كلها من مطاردة وتضييق ومصادرات ومعتقلات ومَن يعلم لعلنا نقترب من عالم الشهادة في سبيل الله!!

الكثير من أصدقاء "الإخوان" كانوا يلومون عليهم عدم تعاملهم بحسم مع الإعلام الذي يُفسد عقول الناس، ولكن الذي رأيته أن الذي اكتشفه "الرئيس" وحكومته من أحوال البلاد كان كافيًا لتدمير إرادة أي رئيس وأي حكومة لولا صمود هذا الرجل ومعاونيه، وقد كشف لنا الانقلاب عن بعض الحقائق ومنها:

أولاً: كان الباحثون المدققون لا يلتفتون كثيرًا إلى الدعاية اﻹعلامية "لجيش مصر" عبر العقدين الماضيين، وكان ثمة اقتناع أن (قيادة الجيش) التي أسسها "طنطاوي" كانت لبناء عقيدة "السلام مع إسرائيل" وليس "الاستعداد للعدو الإسرائيلي"، وبالتالي فلم تكن هذه القيادة غاضبة من اتفاقيات "كامب ديفيد"..

هذا ما كان يتصوره أشد الباحثين شجاعةً أو تجنيًا على "قيادة الجيش"، ولكن الحقيقة التي فجرها الانقلاب أن "قيادة الجيش" تحولت مهمتها لتكون هي "الضمانة للوجود الإسرائيلي الآمن"، وهذه العقيدة تم بناؤها بصبر وتؤدة، وبأيدي (مصرية- أمريكية- إسرائيلية) برضا (أوروبى- خليجي).

وقد تم البناء عبر منظومة (انتقاء صارم للقيادات العليا- ولاء تام من القيادات الوسطى لقيادتها- انضباط كامل للرتب الصغرى- دعاية إعلامية قوية للجيش)، ووفقًا لهذا النهج فقد أصبح سائغًا تلك المزايا والمرتبات الفلكية التي تحظى بها القيادات العليا ومنها (شيكات بدل الولاء) التي كانت تصدر من "مبارك"شخصيًّا، تم إسباغ المزايا على الصفوف التالية من الضباط.

ثانيًا: تحول الجيش بعد ذلك إلى ما يشبه مؤسسة مدنية ربحية تمتلك (ربع إلى ثلث الاقتصاد المصري).

وبمرور الوقت.. زادت الطبقات القيادية بمستوياتها المختلفة تماسكًا وولاءً، والتصقت القيادة بنظيرتها اﻷمريكية دون أدنى تناقض في المصالح!!.

ولذلك لم نسمع عن محاولات لتنويع مصادر التسليح والإفلات من السيطرة الأمريكية التامة على التسليح والتدريب، وبالتالي على اختيار القيادات بشكل غير مباشر عبر منح أعلى التدريب والشهادات المؤهلة لتقدم الصفوف، أو بشكلٍ مباشر عبر اللقاءات الضيقة مع "مبارك وطنطاوي".

ثالثًا: ستلاحظ أن الغالبية العظمى لضباط الجيش مناصرين لأي تصرف ينتهجه "المجلس العسكري"، وستلاحظ أن قدراتهم على الحوار ضعيفة للغاية، وأن إدراكهم السياسي مثل العامة من غير المتعلمين، لكنهم متماسكون ومنضبطون حول قيادتهم، وهم لا يفرقون بين أحقية هذه (القيادة) في قيادة (الجيش) أو قيادة (الدولة) ،فكل شيء بالنسبة لهم مبني على (عصبية قبلية للقيادة لا للوطن)، بالإضافة لبعض الأوهام السياسية مثل (ضرورة أن يعود الأمن والانضباط للبلد)، وكأن البلد معسكر يحتاج لشاويش!!.

ومعنى ذلك هو عودتنا لفترة الولاء للأشخاص والارتباط المصلحي بهم، على حساب الولاء للوطن والرسالة اﻷسمى للقوات المسلحة.

رابعًا: ومن أخطر ما حدثني به أحد قيادات الجيش هو نزول هذا الكم الكبير من الأفراد والمعدات (قدَّره البعض بثلث الجيش) والاختلاط بالحياة المدنية مما يفقد الأفراد الاستعداد القتالي، ويصبح مرور الوقت على اﻷفراد بعيدًا عن معسكراتهم بمثابة التدمير الممنهج للقوات المسلحة، وإخراجها تمامًا من القدرة على ردع العدوان، هذا إذا كان هنالك من يحرص على إعداد مقاتلين، أو التحسب من أعداء!!.

خامسًا: كذلك فقد أظهر الالتحام- الذي شرحناه- بين "المجلس العسكري" و"وزارة الدفاع الأمريكية" حقيقة أخرى، وهي أن "مصر" تابعة (لأمريكا- القوة) وليس (لأمريكا- السياسة)، وبالتالي فإنَّ الملف المصري يُدار يوميًّا عبر (موازين القوى) بالمنطقة، والتي تحافظ على (التفوق العسكري الإسرائيلي)، ولا تدار عبر الموازنات والمصالح السياسية.

والفارق واضح، وهو أن الساسة حتى ولو كانوا أمريكان ومتآمرين فإنهم سيراعون آثار أي قرار (مثل الانقلاب) على المجتمع وشرائحه وتفاعلاته، والتي ربما لا تراعيها (ذراع القوة العسكرية)، بمعنى آخر فإن الحقيقة الجديدة التي ظهرت أمامنا، أن (أمريكا-العسكر) هي صاحبة القرار والتنسيق، وليست (أمريكا- الإدارة).

وبالتالي، فإن الحلول السياسية في الأغلب لن يكون لها دور في المرحلة الحالية إلا حين يشعر الجميع بفشل حلول القوة الغاشمة، ﻷنه ما دامت القوة والسحق والقتل هو معيار اتخاذ القرار الانقلابي، فإن المواجهة لن تكون إلا بالصمود والثبات والاستعداد الدائم لتقديم التضحيات وإيقاظ الشعب وضمه للثورة، وتظل المعركة هي (معركة إسقاط إرادات) وليست (معركة مكاسب وخسائر).

وقد كان المفترض سقوط إرادة المدنيين العزل، لولا أن العسكر لم يفطنوا إلى خطورة (العقيدة) التي حرَّكت الجماهير ضد الانقلاب وأربكت حسابات العسكر (المصريين- اﻷمريكان)، ولولا انشغال "إدارة أوباما" بالوضع الداخلي المتأزم مع الخصوم الجمهور يين لرأينا مبادرة أمريكية تنقذ اﻷوضاع الغارقة، وتخفف آثار العبث العسكري بدولة كبيرة مثل "مصر".

سادسًا: مازلنا نرى ونؤكد أن "الجيش" لم يعد على قلب رجل واحد خشية تدهور اﻷوضاع بعدما تأكدوا أن الشارع لن يرجع عن مطالبه، وأن اﻷوضاع الاقتصادية والمجتمعية لا أمل في إصلاحها، ولكن مشكلة القصاص من" السيسي" و"إبراهيم" وأعوانهما.. هذه المشكلة مازالت تضعهم في بوتقة واحدة، ﻷنهم لا يدركون إلى أي مدى سيكون القصاص.

لذا أميل إلى تصديق اﻷخبار التي تروج لاستغاثة بعض القيادات لتدخل سياسي أمريكي (أو برعاية أمريكية) حتى تقدم مبادرة حلول وسط، وحتى هذا التاريخ سيظل الوضع على ما هو عليه، ولا نتوقع أي نجاح لوساطات داخلية، حيث لا يمتلك العسكر الخيال السياسي الذي يخرجهم من المأزق.

سابعًا: حقيقة ثانوية فجرها الانقلاب، وهي أن مشكلة ضباط أمن الدولة كادت تتوه في زحام الضغوط السياسية والاقتصادية في السنوات الثلاثة السابقة، سيما وأن غالبيتهم غير معروفين، أما اﻵن وقد عادوا يفترسون المعارضين ويهتكون الحرمات ويمارسون التعذيب حتى العجز أو الموت.. بظنهم أن حماية "العسكر" لهم ستكون سابغة.. فهم يعيشون في رعب وخوف من القصاص الثوري أو المباشر من أهالي الشهداء الذين زادت قناعتهم بأن دماء أبنائهم قد أهدرها "العسكر".

ثامنًا: المصالح الاقتصادية المرتبطة بالجيش أصبحت هي اﻷخرى في فزع من القادم، ﻷنها كانت في أمان نسبي قبل الانقلاب؛ ذلك أن الإصلاح عبر آليات سياسية ديمقراطية يراعى دائمًا التعقل في محاربة الفساد، أما بعد الانقلاب وبعد سقوط هيبة الحديث عن فساد العسكر، فإن أرباب هذه المصالح يتخوفون من العصف بهم، لذا فهم يمثلون ضغطا (للم اﻷمور) -بعدما تيقنوا بعدم قدرة العسكر على إمرار الانقلاب.

أخيرًا.. فإن استلهام اﻹيمان بصحة الموقف وسلامة المقصد، واستدعاء طاقة الصمود والثبات مازالت هي المحاور التي تدير الصراع، وتتقدم به لانتصار سيعم المصريين بكل شرائحهم، وسيشعر الناس وقتها بعظمة ما يقوم به الثوار.. حينئذ سنرى شعبًا جديدًا.

مجلة العصر

البث المباشر