د.مصعب أبو عرقوب
"عندما أصطحب أحيانا، أحد الضيوف الأجانب، في رحلة جوية أطلب من الطيار الاتجاه غربا مرة ثانية، باتجاه الساحل، والتحليق فوق منطقة السفارات في شارع اليركون في تل أبيب، وتستغرق الجولة الجوية حتى الحدود والعودة، أقل من عشر دقائق، وعندما يكون الضيف دبلوماسيا تتخذ حكومته موقفا متشددا في موضوع المناطق المحتلة، يستطيع أن يتصور بسهولة، كيف يمكن له أن يعمل في سفارة تقع على مسافة 5 دقائق طيران بطائرة خفيفة من الحدود الجديدة التي تريدها دولته لإسرائيل."
من خلال هذه الرحلة الجوية يحاول نتانياهو وكما يذكر في كتابه "مكان تحت الشمس" أن يقنع العالم "بالواقع الجغرافي الخطير لإسرائيل" وبصعوبة التنازل عن الضفة الغربية "التي تمنح الدولة اليهودية عمقا وارتفعا استراتيجيا".
ولتحريك العملية السلمية وعجلة المفاوضات جهد الجنرال دايتون في طمأنة قادة الاحتلال على ملئ هذا "العمق الاستراتيجي" في الضفة الغربية بأجهزة أمنية لن تشكل بحال من الأحوال أي خطر على الاحتلال، بل ستقوم بتأمين الحدود وفرض الأمن، كاستحقاق تفرضه العملية السلمية والاتفاقيات الموقعة.
وفي محاضرته الشهيرة بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط ربط الجنرال دايتون التقليل من آثار أقدام الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية بقدرة الأجهزة الأمنية للسلطة على السيطرة والضبط، وقد دفع التفاؤل الجنرال للقول "لقد انخرطوا في سلسلة ما يدعونه الهجوم الأمني عبر الضفة الغربية، وبمنتهى الدهشة بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي، وبسلسلة من الجهود المتواصلة لاستعادة حكم القانون في الضفة الغربية وإعادة بناء السلطة الفلسطينية"، وقد بدت الأمور وردية اللون وباتجاه تحقيق نظرية الولايات المتحدة وجنرالها في تحقيق "السلام عبر الأمن".
إلا أن المسافة التي تقطعها طائرة نتانياهو حتى الحدود والعودة لم تتغير، والأحداث لم تظهر تغيرا على فكره وقناعاته، وإن تغيرَ أسلوبه واتجه نحو دبلوماسية التصريح في مواكبة لروح العصر، لكنه لم يبتعد كثيرا عما كتبه في تسعينيات القرن الفائت عن "خطأ الحكومة الإسرائيلية في إنشاء قوة عسكرية تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية غربي نهر الأردن.....لأنها – وبحسب قناعاته- ستوجه في يوم ما ضد الدولة اليهودية ."
ويبدو أن الجهد الأمريكي لم يستطع نزع هذه القناعات من عقله وبتقيد صارخ بما صرح به من ضرورة "عدم موافقة الدولة اليهودية على وضع يقضي بأن تراقب قوات جيشها ما يجري في المنطقة، من وراء الأسلاك الشائكة المحيطة بمعسكراتها المغلقة، وعلى وجوب "تمكين الجيش الإسرائيلي من الوصول إلى أي زاوية في المنطقة بما فيها التجمعات السكنية في المدن"، فجاء اقتحام مدينة نابلس واغتيال أعضاء الخلية التي قتلت مستوطنا ليصب في نفس السياق، وبالاعتقالات المستمرة بوتيرة منتظمة يكرس نتانياهو نظريته بل ويطورها للوصول وعلى حد قوله إلى أي منطقة يريد، فوصلت فرق اغتياله الى ضواحي دبي وغيرها من العواصم.
ولم يتوانى نتانياهو في التصريحات التي تؤكد على أن "وادي الأردن سيظل في أيدي إسرائيل في كل مفاوضات مستقبلية". وبقراره ضم الحرم الابراهمي ومسجد بلال بن رباح لقائمة ما سماه التراث اليهودي سار في اتجاه التصعيد ،ووضع خططه للمسجد الأقصى قيد التنفيذ.
وقد رفد وزير خارجيته افيغدور ليبرمان هذا التوجه فقال أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي "إن الفكرة المتمثلة في أن النزاع في الشرق الأوسط الممتد منذ عقود يمكن أن يحل عن طريق تسوية على الأراضي، هي مجرد وهم."
ومع أن الرحلة الجوية لا تتجاوز العشر دقائق، فإنها ترسم صورة لذهنية نتانياهو ولواقع وتوجسات إسرائيل الأمنية، ومن الغريب أن إدراك تلك الحقيقة قد تطّلب من البعض سنوات عجاف من الجري وراء سراب المفاوضات وإيجاد حل وهمي لقضية فلسطين.
كما انه من العبث بمكان تعلق البعض بحبال الإدارة الأمريكية وقدرتها على الضغط لإخراج حل افتراضي يقسم الأرض المباركة بين أهلها ومغتصبيها، فعلاوة على أن هذا الضغط لم يكن يوما لعيون أهل فلسطين ولم تقحم الولايات المتحدة نفسها في هذا الصراع إنصافا للحقوق بل تثبيتا لمصالحها، ومحاولة منها لإغلاق ملف يربك خططها ومشاريعها في المنطقة،
فإن الحديث عن هذه الحلول لا يستهوي إلا من بقي أسيرا لحفر أوسلو وأخواتها، أو مقيدا باتفاقيات ومصالح شخصية تحول بينه وبين التحليق بفكره يوما ليرى أبعاد الصراع وليبصر حدوده، فأمة تعدادها أكثر من ثلث سكان العالم تعتقد بأحقيتها بأرض الإسراء والمعراج وترى في المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين وتتطلع لذلك اليوم الذي تحرر فيه المقدسات، ولن ترضى بحلول أقل من تلك التي رسمها قادة كصلاح الدين وقطز والظاهر بيبرس.
وإلى تلك اللحظة التي تحل فيها قضية فلسطين حلا جذريا يرتقي لطموحات الأمة وأمالها، ستبقى محاولات الحل لهذه القضية محاولات وهمية فحدود رحلة التفاوض "المباشرة أو غير المباشرة "مع الاحتلال واضحة المساحة والمفردات، ولن يدخل في قاموسها إلا المزيد من المستوطنات والحواجز والجدران والأسرى والاغتيالات والاقتحامات، والتهويد وحفر الأنفاق وهدم البيوت وقتل الأطفال، وستبقى حدود المفاوض لا تتعدى الالتزام بالاتفاقيات الموقعة وحفظ الأمن، أضف إليه الشجب والاستنكار والمطالبة بوقف أو تأجيل الاستيطان وإزالة الحواجز، ولن تتداول كلمة التحرير في تلك الأجواء مطلقا، فهي خارج حدود تلك الرحلة مع نتانياهو في أفق النظام العالمي والقرارات الدولية والاتفاقيات الموقعة .
و حتى تعود مفردات التحرير والنصر واستعادة المقدسات إلى الأفق، لا بد للأمة الإسلامية أن تُفعل مشروعها الحضاري بإقامة الخلافة الإسلامية لتوحد صفوفها وتحلق في فضاء العزة والمجد بلا حدود.