الحلقة الأضعف في قضايا السرقة

عمال النظافة في المستشفيات.. متهمون حتى تثبت براءتهم!

غزة-فادي الحسني

نكست أمل (اسم مستعار) عاملة نظافة في مستشفى الشفاء الطبي رأسها، قبل أن تتحدث عن واقع التعنيف اللفظي الذي تعرضت له على يد رجال المباحث الطبية، خلال استجوابها حول فقدان مبلغ من المال اتهمها أحد أفراد كادر التمريض بسرقته.

أمل وهي أم لأربعة أطفال تقول إنها دخلت في مشادة كلامية مع رجال الأمن بعدما هددها أحدهم بالضرب حتى تدلي باعترافها، غير أنها رفضت الاعتراف كما تقول على ذنب لم تقترفه.

بعد تدخل إدارة الشركة التي تعمل ضمن عمالها، توقف الاستجواب، وقد علمت لاحقا ان الشكوى كيدية, الغاية منها الايقاع والتغرير بالعاملة لطردها من المستشفى، بذريعة أنها تكشف بعض أسرار المتقدم بالشكوى.

العاملة صاحبة الرداء الأزرق، كانت أول من اتهم بقضية السرقة لأنه من وجهة نظر مدير الشركة التي تعمل لديها، الحلقة الأضعف بالنسبة للكادر الطبي أولاً ورجال الأمن.

إفادة أمل ليست الأولى، فحبل شكوى عاملي شركات النظافة في مستشفيات قطاع غزة لا ينقطع ابتداء من اتهامهم في قضايا السرقة، وليس انتهاء بوصفهم سببا في الفوضى داخل المجمعات الطبية الرسمية.

"

عمال: نزج في قضايا مختلفة وعندما يكتشف الفاعل لا يرد اعتبارنا

"

تفاعلا مع شكاوى اكثر من عشرين عاملاً من اصل 630 يعملون في نحو عشرة مستشفيات حسب تقديرات الشركات المسؤولة عنهم، قامت "الرسالة" بالبحث عن دوافع تعرض هؤلاء العمال للاستجواب في معظم القضايا خصوصا انها وجدت التعامل معهم على  اساس أنهم متهمون حتى تثبت براءتهم!.

امتعاض بالإجماع

ورغم ما ساقته المباحث الطبية من مبررات لقضية استجواب العمال حول قضايا السرقة، إلا أنهم (أي العمال) عبروا بالإجماع عن امتعاضهم من الأسلوب المتبع معهم في عملية الحصول على الافادة او الاستجواب حتى في القضايا "السخيفة".

على سبيل المثال لا الحصر يقول احمد (اسم مستعار) وهو عامل نظافة في مستشفى ناصر جنوب قطاع غزة إن الجهات الأمنية اتهمه بسرقة هاتف محمول (جوال) لاحد اعضاء كادر التمريض العامل في المستشفى، ورغم نفيه القاطع رؤية الهاتف المفقود الا ان المباحث اصرت خلال عملية استجوابه على ان معظم الشكوك تدور حوله لكونه العامل الوحيد الذي شوهد في مسرح الجريمة.

يشير العامل احمد وهو يرتشف سيجارته، إلى أنه بعد التحريات التي قامت بها المباحث تبين ان احد زملاء الممرض أخفى الهاتف على سبيل المزاح، وإن العامل بريء، لكنه اعاب على الجهة الأمنية عدم اعادة الاعتبار له.

وقال العامل "اتهامي في قضية من هذا النوع تجعلني محط اشتباه امام زملائي والكادر الطبي داخل المستشفى، وهذا له بالغ الاثر على نفسيتي، علما أن تبرأتي لم تكن في العلن".

تجنبا للوقوع في فخ الاتهام يفضل العامل حسن السر من محافظة خان يونس، عدم تنظيف الاجهزة الطبية الحساسة حتى لو كان ذلك بأمر من الكادر الطبي، مشيرا الى حادثة اتهام احد عمال النظافة في تعطل جهاز طبي بعدما قام بتنظيفه.

ويشير حسن -عامل نظافة منذ ما يزيد عن 12 عاماً- الى أنه سبق أن اتهم بسرقة صنبور مياه، غير ان ادانته لم تثبت.

وألمح الى حادثة استدعاء اكثر من 20 عاملا جملة واحدة قبل نحو ثلاثة اعوام، قال انه زج بهم في قضية سرقة نوافذ المجمع الطبي الذي يعملون فيه، وانبوبة غاز، موضحا أن عملية الاستجواب تكررت لعدة ايام حتى تبين ان السارق هو احد المشرفين على العمال آنذاك، وهو يتبع شركة النظافة.

مضايقات

الحاج ابو حازم الداية مسؤول شركة عمال النظافة في مستشفيي الشفاء والدرة، قال إنه خلال عمله في هذا المجال تعرض عماله للكثير من المضايقات على يد الجهات الامنية التي تتابع القضايا الامنية داخل المستشفيات.

يتساءل الداية وهو مشغل لنحو 164 عاملا يعملون على ثلاثة فترات خلال الـ24 ساعة، كيف يمكننا رد اعتبار عامل النظافة الذي يهان ويصبح محل شبهة امام العاملين معه في كل مرة يتهم فيها بسرقة هاتف او نقود او اشياء بسيطة كاللمبة او "الشطاف"؟.

لا ينكر الداية الذي اشتعل رأسه شيبا، أن هناك عمال قد تورطوا في سرقات وانهم حقروا انفسهم بسرقة اكياس البلاستيك حتى من داخل مقر الشركة المشغلة، وقد قام بفصلهم مباشرة، لكنه يفضل عدم الاسراع في اتهام العمال حفاظا على كرامتهم وانسانيتهم.

العمال الذين التقيناهم في اطار التحقيق، رغم أنهم من ذوي الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردي لكنهم ليسوا في موضع "شبهة" بدليل أننا اطلعنا على شهادات حسن سير وسلوك للعشرات منهم صادرة عن وزارة الداخلية، قبل الحصول على موافقة التشغيل.

الا ان المقدم محمد المعصوابي مسؤول المباحث الطبية اكد لـ"الرسالة نت" أنه من الطبيعي ان يكون عامل النظافة في دائرة الشبهة لطبيعة عمله التي تقتضي الدخول الى الاماكن الحساسة وبالتالي يصبح عرضة للاتهام امام الكادر العامل في المستشفيات ولكننا في المجمل لا نتهم احدا، وفي الغالب نتعامل مع شكاوى مقدمة بحق العمال تحديدا".

المعصوابي الذي التقيناه في مكتبه بمجمع الشفاء الطبي، برر توصيف عمال النظافة العاملين في المستشفيات بأنهم "الحلقة الأضعف"، لأنهم من أصحاب الدخل البسيط ويتعرضون لمغريات جمة وبالتالي قد يندفعوا تحت وطأة اوضاعهم المعيشية الصعبة نحو السرقة.

يرد مسؤول المباحث على قول مدير الشركة بان المباحث تتجه مباشرة الى العامل للتحقيق معه في القضية المتهم فيها، دون العودة إلى الشركة المشغلة او الحصول على اذن اداري، "نحن لا نستدعي أي عامل نظافة إلا اذا ورد بحقه شكوى، ونبلغ الشركات بضرورة احضاره بطريقة رسمية".

داخلية وخارجية

عمال النظافة في المستشفيات ليسوا موضع تهمة داخلية فحسب، بل هناك اشخاص من خارج اطار المستشفى أشاروا إلى العمال بإصبع الاتهام. سائق تاكسي كان متواجدا داخل مستشفى الشفاء، اتهم (محمد)، احد عمال النظافة، بسرقة جهاز الراديو خاصته بالإضافة الى مبلغ 800 دولار، وقد كان وقتئذ عامل النظافة يأخذ قسطا من الراحة بعد عناء عمل لساعات طويلة داخل قسم الحروق.

 قال محمد الذي التقيناه بعد ان سمح له رب العمل بالإدلاء بتفاصيل الحادثة التي تعرض لها، إن السائق اتهمه بالسرقة دون أن يكون لديه اي دليل، واستدعى افراد المباحث على الفور.

شركة النظافة سارعت بالتدخل للحيلولة دون نقله الى مخفر شرطة "العباس"، إلا أن رجال المباحث اصروا على ذلك كما قال وأخضعوه للتحقيق فتبين انه بريء.

في هذا الاطار عبر احمد الهندي المدير التنفيذي لشركة النظافة القائمة على تشغيل العمال في مجمع ناصر الطبي بمحافظة خانيونس، عن امتعاضه لوضع العمال في "بوز المدفع"، حسب تعبيره، في القضايا كافة، لافتا الى أن المباحث تستبعد الاطراف الاخرى ذات العلاقة بالشكاوى "لا اعلم إن كان ذلك من باب الاستهتار بالعمال او خشية من اتهام الاخرين" والكلام للهندي.

وأعاب المدير التنفيذي الذي يشرف على نحو 65 عاملا، التقليل من قيمة عمال النظافة وعدم الالتفات الى مجهوداتهم، مشيرا الى تورط بعض افراد الكادر الطبي في بعض الاحيان ومرافقي المرضي بحوادث السرقة التي تحدث داخل المستشفيات.

في مطلع رده على ما قيل، ذكر المقدم المعصوابي إن المباحث الطبية تتعامل مع شكاوى يجري تقديمها اما من داخل او من خارج اطار المستشفى، وقال "في جميع الاحوال سواء كان المتقدم بالشكوى موظف او اداري او طبيب أو مواطن عادي، فهو يشير إلى المتواجدين في مكان الحادثة وغالبا ما يكون من بينهم عمال نظافة، وبالتالي نحن مضطرون لاستجواب الجميع واخذ افاداتهم".

وأضاف المعصوابي "ليس شرطا ان كل عامل هو سارق(..) هناك عمال لديهم صدق وامانة ومنهم من اعاد بعض المفقودات".

منطلق قانوني

وتنطلق المباحث الطبية في قضية استجواب عمال النظافة او اتهامهم من منطلق قانوني، استنادا الى ما نصت عليه إحدى مواد القانون بجواز توقيف مأمور الضبط القضائي لأي مشتبه لمدة 24 ساعة. 

وقد بلغ مجمل حوادث السرقة المسجلة لدى دائرة المباحث الطبية على مستوى مستشفيات قطاع غزة خلال العام 2013 وفق احصاءات رسمية اطلعت عليها "الرسالة نت"، حوالي 26 حالة، علما أن جهات عليا في الدائرة افادت بان عشرات الحالات لا تسجل رسميا إما لعدم تقديم اصحابها شكاوى رسمية او لتعذر إلقاء القبض على المتهم.

ومن الاهمية بمكان التأكيد على أن "الرسالة نت"، وخلال جولات متعددة قامت بها لعدد من المستشفيات في قطاع غزة، لم تعثر على أي من كاميرات المراقبة كتقنية تضمن على الأقل تحديد هوية المتورطين في قضايا السرقة التي تتكرر بشكل شبه يومي داخل الدوائر الصحية وخصوصا على شباك التذاكر، وفقا لجهات إدارية.

في المقابل قال مسؤول المباحث الطبية، وضعنا مخططا لتركيب كاميرا مراقبة لأهميتها في العمل على ضبط الحركة خصوصا في ضوء توافد عشرات المواطنين بشكل شبه يومي الى المستشفيات".

وأشار إلى أن من وصفهم ببعض "المارقين والخارجين عن القانون" يحدثون بعض التجاوزات او يرتكبون حوادث جنائية، "وبالتالي فان وضع كاميرات المراقبة سيعمل على ضبط الحركة الداخلية والخارجية على الاقل في مجمع الشفاء الطبي لكونه اكبر المجمعات الطبية في فلسطين".

وبالعودة الى الحالة الاقتصادية المتردية التي يعاني منها العمال عموما في الاراضي الفلسطينية وعمال النظافة في المستشفيات على وجه الخصوص، فإن دراسة قدمها مركز العالم العربي للبحوث والتنمية (أوراد)، أوضحت أن العمال في غزة هم الاقل اجورا مقارنة بعمال الضفة الغربية والقدس، مشيرة الى ان 27% من العمال يعملون بأجر أقل من 750 شيقل شهريا.

انطلاقا من الأجور المتدنية التي يتلقاها عمال النظافة في المستشفيات فإن البعض اعتبرها دافعا للقيام ببعض السرقات داخل المجمعات الطبية، غير انه لا يوجد توثيق دقيق لحوادث من هذا النوع تورط فيها عمال نظافة.

رئيس اتحاد نقابات عمال فلسطين سامي العمصي نفى بدوره وجود علاقة بين قلة الدخل والسرقة، قائلا "قلة المال او كثرته ليس لها علاقة بالسرقة فهذا تبرير مرفوض، الأمر لا يعدو كونه استغلالا للعامل".

في ضوء ذلك أوضح القائمون على شركة "الداية" أن عدد المفصولين على خلفية سرقات من عمالها بلغ خمسة، علما أن منهم أبرياء، كما قالوا، ولكن اصدرت المباحث بحقهم توصية بالفصل، فيما وجهت التهمة لأكثر من ثلاثين اخرين ولكن لم تثبت ادانتهم.

بيد أن المباحث أشارت الى ان توصية الفصل لا تتخذ الا في حالات الضرورة القصوى التي يثبت فيها تورط عمال أكثر من مرة في قضايا سرقة.

وقال المقدم المعصوابي "نحن نقدر وضعهم الاجتماعي والاقتصادي الذي غالبا ما يكون تعيسا، وكثيرا ما نتغاضى عن بعض الأمور ونكتفي بتنبيه العمال، ولكننا لا نرفع توصيات بالفصل الا عندما تتكرر حوادث السرقة من نفس الشخص".   

فيما تصر (ام ماجد) وهي عاملة نظافة، على براءة زوجها الذي اوصت المباحث بفصله، رغم انه كما تقول لم يثبت بحقه التهمة الموجهة له والمتعلقة بسرقة (جوال)، وقد قضى ثلاثة ايام في السجن تحت وطأة التحقيق "ظلما وبهتانا" حسب قولها.

ام ماجد التي تعول اسرة مكونة من اربعة افراد، في ضوء تعطل الزوج عن العمل بعد فصله، تشير الى أن افراد المباحث ايضا اتهموها في قضية سرقة، وعندما نفت واضعة يدها على المصحف ومقسمة بانها لم تسرق، قال لها احد افراد المباحث الطبية "لن تنطلي علينا هذه التمثيلية"، كما تقول.

ردا عليها قال مسؤول المباحث الطبية "نحن لم نحقق مع احد داخل المستشفيات البتة سواء كمواطن او عامل او موظف ونتعامل بحساسية عالية على قاعدة عدم عسكرة المستشفيات"، نافيا وبشكل قطعي اعتداء افراد دائرته  على احد من العمال.

النقابة والدفاع

شكوى العاملة ام ماجد وغيرها العشرات من العمال، تبين انها لم تصل إلى اتحاد نقابات العامل بصفته منظمة تعمل من أجل الدفاع عن حقوق العمال وبناء مؤسسة نقابية تساهم في تطوير وتنمية المجتمع المدني.

وطبقا لقول العمصي فان عمال النظافة على وجه الخصوص في المستشفيات يتجنبون طرح شكواهم خشية فقدان مصدر رزقهم، مشيرا الى أنه في كثير من الاحيان يقبل العامل بالعودة الى عمله حتى لو كان مظلوما، في ضوء انعدام فرص العمل امامه.

وأكد رئيس الاتحاد ان منظمته تتعامل مع الشكاوى على مختلف اشكالها سواء كانت مباشرة ام غير مباشرة، حيث تقوم بالتواصل مع الاطراف المعنية من اجل الدفاع عن حقوق العمال "لكن المشكلة أن بعضهم ينكر مشكلته ويحاول اخفاءها خشية الفصل التعسفي" والقول للعمصي.

وأضاف "العامل يفضل البقاء على رأس عمله بدلا من التبليغ عن مشكلته التي يشعر انه ظلم فيها، ومن هنا يأتي الاستغلال السيء له"، مؤكدا ان الاتحاد يعمل جاهدا للحفاظ على كرامة العمال وقيمتهم المجتمعية.

وأشار الى أهمية الدورات القانونية التي يقدمها الاتحاد الى العمال الذين يفضلون ابعاد مشكلاتهم عن الاضواء، توعية بحقوقهم وواجباتهم، داعيا عمال النظافة في الشركات العاملة داخل المستشفيات إلى ضرورة التوجه بشكواهم للاتحاد حتى يقوم بالدور المطلوب والتدخل السريع مع الجهات المعنية لحل مشكلاتهم. 

في الإطار نفسه قدم نضال غبن، مدير مركز الديمقراطية لحقوق العاملين في قطاع غزة، مقترحا للحد من الانتهاكات التي يتعرض لها عاملو النظافة في مستشفيات قطاع غزة، يتعلق بأهمية التوحد في اطار تنظيم نقابي لمواجهة اعباء العمل.

وقال غبن لـ"الرسالة نت" اذا ما قام هؤلاء العمال بتشكيل لجنة نقابية فرعية في اماكن تواجدهم ترقى للجنة موحدة تمثلهم فإن ذلك سيساعد كثيرا في تجاوز الانتهاكات التي يتعرضون لها"، مشددا على أهمية اتباع قانون العمل في حفظ كرامة هؤلاء العمال.

وأشاد بقانون العمال المعمول به فلسطينيا ووصفه بالعصري، لكنه قال انه لا توجد جهة رقابية تقوم بالتفتيش لضمن تنفيذه، مبينا ان مركزه يقوم بمتابعة حثيثة لقضايا العمال بالتعاون مع وزارة العمل من اجل حفظ حقوقهم.

وانتقد في الوقت نفسه الانتهاكات التي يتسبب بها الاداريون في المشافي بمطالبة عمال النظافة القيام بأعمال خارج اطار عملهم، وهو أمر اكد عليه احد العمال الذي قال "نقوم احيانا بنقل المرضى الذين يتوافدون الى اقسام الاستقبال"!.

وحتى يتشكل هذا الاطار النقابي الذي ورد على لسان "غبن" انه محارب، سيبقى عمال النظافة في مشافي قطاع غزة هم (الحلقة الاضعف) لذلك يسهل اتهامهم، ولكن اذا توفر المبرر القانوني لهذا، فليس معنى ذلك انتهاك انسانيتهم والاشتباه بهم استغلالا لكونهم اشخاص بسطاء.

البث المباشر