رغم المصالحة التي قدمت فيها حماس كل أسباب التوافق مع منظمة فتح ورئيسها محمود عباس، ورغم كل مظاهر الوحدة الوطنية التي توطدت بين الفصيلين في مواجهة العدوان ميدانيا ثم سياسيا، ورغم ما يفترض أن تقدمه منظمة فتح لحركة حماس من الاحترام والثقة لإبداعاتها في قيادة المقاومة وكسر صورة العدو في أكثر من اتجاه، وأنها مكنت منظمة فتح ولأول مرة تفاوض العدو من مركز قوة.. رغم كل ذلك فهي تعود اليوم على الخصومة من بدء ويشن رئيسها ومتحدثوها على حماس هجوما إعلاميا وسياسيا وأمنيا قاسيا وشاملا ومركزا يذكر بأيام الانقسام الأولى قبل ثماني سنوات..
هذا التحول الصارخ يقوم في لسان أصحابه على ثلاث حجج، الأولى: وشاية من رئيس الموساد الصهيوني لعباس بأن حماس كانت ستنقلب عليه في الضفة وأن (إسرائيل) اعتقلت على ذمة ذلك 93 شخصا من حماس .. والثانية: أن حماس تعامل عباس - كما يقول هو – على أنه "طربوش وظل" بلا اعتبار، ولا تراعي رأيه في سلم ولا في حرب.. أما الثالثة فأن حماس اعتدت على كوادر فتح أثناء الحرب على غزة وأنها فرضت الإقامة الجبرية على 300 منهم..
وفي مناقشة هادئة لهذه الفرى (وليس الحجج) نتساءل: كيف لرئيس هو الرجل الأول في القيادة الفلسطينية أن يستمع، فضلا عن أن يصدق، وشاية العدو في حماس؟ وكيف له أن يصدق أن المقاومة ستنقلب بـ93 شخصا على سلطة تعداد جيشها يتجاوز السبعين ألفا مدعّمين ومحميين أمنيا وعسكريا من الاحتلال؟ أما صحيفة "هآرتس" العبرية فتقول إنها اطلعت على ملف التحقيق مع أحد قادة حماس في الضفة "رياض ناصر" حول هذه الوشاية وأنها خلصت لعدم الثقة في كل الرواية..
وفي الفرية الثانية.. أقول: صحيح أن عباس وفتح تعانيان من عزلة ومن انخفاض الشعبية كما تقول استطلاعات الرأي، ولكن من قال إن حماس هي سبب ذلك؟ ولماذا لا يكون السبب انفصال قيادة فتح عن الواقع وانفصام فتح عن طموحات الشعب الفلسطيني وممارسات وسطوة السلطة البائسة ضد شعبها وفشلها في إقناعه بجدواها وبصحة منطقها..
وأما أن حماس فعلت كذا وكذا ضد فتح وكوادرها أثناء الحرب، فالرد عليه من فتح - غزة – ذاتها ومن لسان الدكتور "حسن أحمد" الناطق باسم الهيئة القيادية العليا للحركة في قطاع غزة.. فقد نفى أن يكون أي من نشطاء أو كوادر أو قيادات الحركة قد تعرض للاعتقال أو فرض الإقامة الجبرية عليه من قبل حماس.
وإذن فالقضية مفبركة
ولا تعدو أنها خصومة غير شريفة وامتداد لفكر الانقسام وليس دافعها إلا العداوة التي تعشش في أذهان القائمين على أمر "فتح - الضفة" وإعلامها وحساباتهم الشخصية والحزبية.
وأما توقيت هذه الحملة فلا يمكن أخذه على محمل الخطأ أو حسن الظن، فهو يأتي بعد الانتصار الذي حققته المقاومة مباشرة، كما يأتي قبيل جولة المفاوضات الثانية بخصوص الميناء البحري والمطار وتبادل الأسرى.. وعليه فلا يستبعد والحال هذه أن يكون ما يجري منسقا بين (العدو والسلطة والانقلاب المصري) وأن يكون مقصودهم ضرب الوفد الفلسطيني بالتشاكس لتعطيل فك الحصار، وإفشال مفاوضات المطار والميناء لمنع الخروج من أسر الجغرافيا المصرية، وإضعاف الاستثمار السياسي لانتصارات المقاومة، واتخاذه تكئة لتعطيل التوقيع على ميثاق روما للمحكمة الدولية..
وفي ضوء هذا فإن على المقاومة أن تشكل قيادة سياسية للمرحلة الحالية تكون قادرة على منع سلطات الانقلاب المصري وسلطة فتح من العبث بالجبهة الداخلية الفلسطينية، ومن تجاهل دور المقاومة في ترسيم مستقبل القضية، وأن تتشكل نواة قيادة مقتدرة لقيادة القضية في مرحلة ما بعد انكسار الاحتلال وما يجب أن يثمره ذلك على مستوى التمثيل الرسمي، إذ لا يعقل أن يظل هذا التمثيل حكرا حصريا على منظمة التحرير شبه المتلاشية والتي لا تملك شرعية ثورية أو شعبية أو انتخابية أو تفوقية أو تغلبية أو وراثية، وفي حين أن مؤسساتها مفككة وأشخاصها إلا القليل منهم، مجرد من بقايا الزمن الغابر، ولا يمارسون السياسة كثورة وتضحية ولكن كمناصب ومكافآت ووجاهات..
هذا لا يعني أن يقع صدام جديد بين الفصائل أو بينها وبين السلطة، ولكن يعني تحديدا وعاجلا أن تقع انتخابات حقيقية لاختيار القيادات والسياسات وصياغة المرحلة القادمة.. وأن تجمع الفصائل صفوفها وأن ترتب أوراقها وأن تثبت منهجيتها في الفكر والمقاومة وأن تتحرك في ضوء ذلك، وألا تظل الخصومة بين حماس وفتح فيما تتفرج بقية الفصائل كأن الأمر لا يعنيها.. وألا تنجر المقاومة لمهاترات الخصوم الذين يبعثرون بنكاياتهم الصغيرة المشروع الوطني.. وكل ذلك بقدر ما على منظمة فتح أن تجترح خطوات جريئة لمراجعة مواقفها وخصوماتها وصداقاتها وأن تجدد نفسها.
آخر القول: أنا شخصيا كنت أطمع أن تتم المصالحة فتعود السلطة لغزة وللمعابر وتدخل المساعدات، وأن تكون حماس وأخواتها في المقاومة، ويفك الحصار الذي لم يعد مقبولا بأي شكل، ليتشكل من كل ذلك نموذج إبداعي يتجاوز ضعف السلطة كما يتجاوز حصار المقاومة، وأن ينتقل هذا النموذج بالتوافق ذاته إلى الضفة الغربية.. ولكن يبدو أن منظمة فتح تفتقد للمشروع أو أن لها اعتبارات أخرى غير المشروع التحرري وغير الوحدة الوطنية.