رحل فؤاد وترك "أمونة بلا جواب"!

غزة_ أمل حبيب

بغطاء رأسها الأبيض مسحت ذرات الرمل العالقة على وجهه وقبلت جبينه وأهدته زغرودة في حين سكنت قلبها حسرة لأن من كان يغني لها "أمونة بعتلها جواب" رحل دون عودة!

غطاء رأسها هو ذاته الذي اعتاد ابنها فؤاد أن يوقفها ليمسح بطرفه وجهه المبلل وفي حال غيابها يبحث عن أي منديل لها بالخزانة.

رحل فؤاد عطيوي الابن المرضي تاركًا لوالدته آمنة تلك الذكريات وعاداته الأحب الى قلبها بعد أن احتضنه باطن الأرض شهيدًا مع زميله أحمد الزهار في وحدة الأنفاق التابعة لكتائب القسام مساء الثلاثاء الماضي إثر انهيار نفق للمقاومة في مدينة الزهراء وسط القطاع.

والدته أمونة التي كانت تجلس خلف صورة لابنها الشهيد سألت الله الرحمة والقبول له وابتسمت قائلة:" ما غاب فؤاد والله ما غاب سيرته بيننا وصوته وهو يمازحني أمونة بعتلها جواب وابتسامته وين ما أروح".

وكأن بيوت الشهداء في غزة هي نسخة واحدة تجد بين ضلوعها الفخر بمن رحل من الأحبة في حين تأسرك ذات الابتسامة المعلقة بين اكليل ورود للشهيد كابتسامة فؤاد الحاضرة أثناء مقابلة "الرسالة" لعائلته في بيتهم بمنطقة المغراقة وسط قطاع غزة.

شقيقه الوحيد جمال يكبره بسبع سنوات الا أن والده قبل وفاته أوصى فؤاد على شقيقاته السبعة حيث أوفى بوعده لوالده وقد التفت السبعة حول مراسلة "الرسالة" ليتسابقن بالحديث عن "حنية" فؤاد وأخرى تترحم عليه وتصفه بـ "صاحب نكتة " ومن زاوية غرفتها قالت الثالثة:" ستفتقده وحدة الأنفاق" واختتمت شقيقته وهي تنظر الى صورته المعلقة عند مدخل البيت: "قسامي لكن حساس ودمعته قريبة".

"الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .. اللهم إني أسألك رزقاً حلالاً طيباً مباركاً" هو آخر ما كتبه الشهيد عبر صفحته على الفيس بوك مذيل هذا الدعاء بصور لمشروعه الجديد "مياه وكراسي الايمان"، في حين كتب باللون الأحمر أسفلها (تنك مياه، بكارج قهوة، كانون نار.. مجانًا).

فؤاد الذي كان يعلم بضيق عيش بعض جيرانه أراد أن يخدمهم دون مقابل حيث أكدت والدته بأنه كان شديد الحرص على مساعدة الأقارب والجيران في الأفراح والأتراح، هي بساطة الانسان التي يتمتع بها صاحب المهمات الصعبة حيث لجأ لمشروع خيري لتتذكره المغراقة ويسجل به عند الله صدقة جارية حتى بعد استشهاده.

خلال حياته تزوج فؤاد بثلاثة وصفتهم والدته بالصالحات الراضيات بقضاء الله وقدره في حين حدثتنا زوجته الثانية عن آخر لقاء لها مع فؤاد قبل استشهاده بساعات حيث أدهشها صفاء وجهه وهيبته بالبدلة العسكرية المتشبثة بها حبيبات الطين وقالت:" لأول مرة ما قلتله بدنا أو هات معك لما تجي غراض".

حالة من الصمت سيطرت على زوجته ولم ترغب أن تزعجه بطلباتها وسألت الله أن يسهل عليه أمره فسهل عليه واتخذه شهيدًا عنده.

أربعة صبية وثلاث بنات رزقه الله بهم والتقطت عدسة "الرسالة" لبسماتهم صورة تذكارية، الصغيرة ليلى 4 سنوات كانت منشغلة بتجهيز شعرها لتبدو جميلة بالصورة، كانت تردد أمام صورته هذا أبوي راح بعيد "، هذا البعد الذي لخصته اليتيمة عاد ليصححه لها شقيقها حمزة الابن البكر للشهيد حيث قال:" بابا بالجنة مبسوط، الله يرحمه".

القائد الميداني في كتائب عز الدين القسام الذي عرف بمهماته النوعية وعمله الا أن بداخله طفل صغير لم يكبر، حيث تميز بمزاحه وصل الى تهديد أهل بيته بأنه سيحيط المزروعات بسلك الكتروني يعمل على إصابة كل من تسول له نفسه بسرقة الخوخ أو الصنطروزة بصعقة كهربائية.

ضحك جميع الحاضرين من أهله في حضرة "الرسالة" حينما استرجعت ابنته الكبرى امنة 11 عامًا ذكرياتها مع والدها وسؤاله مازحًا: "يلا اعترفوا مين سرق الخوخ؟ " لا يعترف أحدهم في كل مرة ثم توجه أصابع الاتهام الى آمنة واخوتها فيضحك أبوحمزة متوعدًا بحماية مشددة حول سور الأرض.

فؤاد الذي تركت رصاصة الاحتلال ندبة على وجهه منذ مشاركته في انتفاضة الأقصى حينما عمل بالداخل المحتل، حيث استفزه جنود الاحتلال فقام برشقهم بالحجارة مما أدى لإصابته بطلق ناري في وجهه عام 2000.

لم تكن تلك الإصابة وحدها من تعرض لها أبو عطيوي حيث أشارت احدى شقيقاته بأنه تم اخراج شظية من أذنه قبل ستة شهور كان قد أصيب بها خلال مهمة جهادية، واصابة أخرى وصفت بالخطيرة تعرض لها في عام 2007 حيث انفجر به صاعق أثناء تصنيعه.

أخته ليلى تحمل في أحشائها جنين وعدت بأن تسميه على اسم الشهيد فخرًا به وأملًا في أن يصبح مثل خاله الذي كان قد سبقها بتسمية احدى بناته على اسمها لحبه لها، في حين أكدت شقيقته حنان بأن توأم روحها فؤاد كان قد كسر قواعد البدو حين زوجها بأحد المهجرين من قرى فلسطين لدينه وخلقه دون النظر الى بلدته.

"الرسالة" أنهت حديثها عن مناقب الشهيد التي لم تنته بحسب أهله مع شقيقته ختام فقالت: "لن توفيه دمعاتنا ودعواتنا هو من استبدل سقف منزلي وشقيقتي بالباطون بدلًا من ألواح الاسبست البالية خوفًا علينا وأطفالنا"، وأكملت حنان:" هو الأب والأخ وترك لنا كنز بشهادته".

قبل مغادرتنا بيت الشهيد أبو عطيوي مرت سيارة "مياه الايمان" والتي كتب عليها "عذبة نقية صحية" فكانت تمامًا كما صاحبها فؤاد الذي عاش ورحل عن الحياة نقيًا.

البث المباشر