الحق في الحياة: عددهم في القطاع تجاوز 3 آلاف
طبيب: لا علاقة للبيئة الخارجية والعمر بإنجاب أطفال متلازمة داون
التعليم: إعداد منهاج خاص بحاجة لإمكانيات مادية وبشرية
أخصائي اجتماعي: محظور اجتماعي وثقافي يمنع الارتباط بهم
غزة/مها شهوان
أمام سوق فهمي بيك وسط قطاع غزة يقف الشاب ادهم .ع 32 عاما احد مصابي متلازمة داون "منغولي" متكئا على عربة حلوى صغيرة بهندامه البسيط ، حيث كان بعض المارة يقفون أمامه يسخرون منه ،وكذلك الأطفال الصغار يستغفلونه لسرقة بعض قطع الحلوى التي يبيعها.
راقبت "الرسالة نت" ادهم حتى وصل إلى بيته لمعرفة كيفية رعاية عائلته له، وما أن وصل بيته حتى فتحت له الباب شابة عشرينية يافعة جميلة وعلى يديها طفل صغير ازرق العينين لم يتجاوز العامين اندفع صوب ادهم ليعانقه ، اقتربت "الرسالة" من الشابة للسماح لها بالدخول وأومأت الأخيرة بالموافقة .
عرفت الشابة بنفسها بأنها زوجة ادهم الذي ارتبطت به منذ تسع سنوات حتى أنجبت منه طفلين أكبرهما لم يتجاوز ثماني سنوات، وبحسب الزوجة فهي التي ترعى زوجها وأبناءها الصغار دون مساعدة احد من أفراد العائلة.
وبعد سماع بعض تفاصيل حكاية ادهم آثرت "الرسالة" التعرف على مصابي متلازمة داون - لاسيما لقلة الحالات التي تعاني من هذا المرض في قطاع غزة - وكيفية التعامل معهم، ومدى تقبل المجتمع لهم ،بالإضافة إلى السمات الجسمانية التي تميزهم عن غيرهم من الأفراد العاديين،إلى جانب مدى قدرتهم على تحمل المسئولية.
عروسه ستنجب
حالة من الصمت سادت بيت ادهم حتى طرحت "الرسالة نت" بعضا من الأسئلة التي أثارت فضولها لتجد لها الأجوبة على لسان زوجته ،وفي سؤال حول كيفية قبولها بالارتباط بشاب منغولي حتى وضعت طفلها إلى جنبها وشبكت أصابعها لتعلو محياها ابتسامة لتجيب:"جاءني أبي قبل تسع سنوات ليطرح علي الأمر لكنني رفضت ذلك مفضلة الارتباط بشاب عادي أسوة بأخواتي اللواتي سبقنني بالزواج "،مضيفة: بعد إلحاح والدي وافقت لأنني أردت أن اخذ الثواب والأجر في الآخرة.
وعن قيام زوجها بواجباته الأسرية قالت: الحمد لله حالته بسيطة فهو يستطيع جلب كل ما اطلبه من أغراض، واصفة حياتها معه بالسعيدة كونها تخلو من المشكلات الأسرية التي تسود بعض الأسر.
لم يكن ادهم المنغولي الوحيد المتزوج الذي قابلته "الرسالة"، فالشاب عبد الله 25 عاما يقطن في حي الزيتون اسمر اللون أجعد الشعر متزوج منذ عام ، كان يجلس في احدى ورش النول والسجاد في جمعية الحق بالحياة ورفاقه يلتفون حوله وهو يحيك بيديه السمراوتين احد البسط ويقص عليهم بان عروسه ستنجب له بعد عدة أشهر طفلا يشبهه.
التخلف العقلي
التقت "الرسالة" نبيل جنيد مدير البرامج التأهيلية في مؤسسة الحق في الحياة والراعية الوحيدة في القطاع لذوي متلازمة داون حيث قال :" جمعية الحق في الحياة تستقبل ذوي متلازمة داون وتعمل على رعايتهم منذ الولادة وحتى آخر يوم من عمرهم وذلك لمواصلة حياتهم الاجتماعية والحياتية"،مضيفا أن الأهالي كانوا في السابق يرفضون وضع أبنائهم بالمؤسسة نظرا لشعورهم بالخجل ،بيد أن الأمر اختلف الآن وباتوا يسارعون فور ولادة طفل منغولي بإحضاره للمؤسسة ليتعلموا كيفية رعايته.
وبحسب جنيد فإن عدد المصابين بـ"التخلف العقلي" في قطاع غزة تجاوز 3 آلاف وما تتعامل معه المؤسسة ما بين 750 إلى 800 حالة، مشيرا إلى أنهم يقومون حاليا بعملية مسح ميداني للتعرف على باقي الأعداد المتسربة.
و يلتحق بمؤسسة الحق في الحياة ما بين 30 إلى 40 حالة شهريا وذلك لاختلاف نظرة المجتمع لمصابي متلازمة داون بفضل برامج التوعية المجتمعية والتثقيفية التي تنفذها المؤسسة كما أوضح جنيد.
ويوجد داخل المؤسسة روضة للأطفال العاديين حيث يوضع داخل كل فصل من ثلاثة إلى أربعة أطفال "منغوليين" وذلك لدمجهم بين الأطفال العاديين .
وذكر جنيد أن مصابي متلازمة داون ينقسمون لثلاث حالات ، البسيطة: وهي القابلة للتعليم ،والمتوسطة: ولديها القدرة على التدريب في الورش المهنية كصناعة النول والسجاد والخيزران وأعمال النظافة والمراسلة للشباب وورش التطريز للبنات ،بينما أصحاب الإصابات الشديدة فتوجد لهم برامج علاجية و سلوكية خاصة.
وعن الأطفال الذين يتم دمجهم بالمدارس العادية أوضح أن قدرتهم العقلية جيدة تسمح لهم بدراسة المناهج الحكومية،لافتا إلى أن الطفل المصاب بالتخلف العقلي البسيط يبقى لمدة سبع سنوات بالمؤسسة ومن ثم يتم تقييمه بواسطة مشرفين من وزارة التربية والتعليم وأخصائيين من المؤسسة للسماح بدمجه في المؤسسات التعليمية.
تبسيط الدروس
وفي احد صفوف جمعية الحق في الحياة كان مؤمن ومحمود وإسراء يجلسون على مقاعدهم الخشبية التي صنعتها أيادي زملائهم بالمؤسسة ، وما ان دخل عليهم المشرف ليراجع لهم دروسهم التي استقوها في مدارسهم الحكومية حتى أنصتوا له وبدءوا يتجاوبون معه في حل بعض المسائل الرياضية المبسطة.
الطلبة ثلاثتهم مصابون بالتخلف العقلي بنسبة بسيطة مما دفع المؤسسة لوضعهم داخل المدارس الحكومية ليندمجوا مع زملائهم الطلبة العاديين ،فهم يدرسون المنهاج الحكومي العادي لكن مع التبسيط.
إسراء ابنة الـ13 ربيعا والتي بدت على تقاسيم وجهها معالم البراءة والبساطة انشغلت بكتابة اسمها على جهاز الكمبيوتر لتظهر قدرتها على استخدامه، وبعفويتها وثقل لسانها قالت: "بدي أصير دكتورة زي عمو باسل". قاطعها مؤمن بحركة توحي بالخوف من الإبرة قائلا:"ما بدي أصير دكتور،بدي أصير كبير وبس".
في حين بين إياد ارخيه أستاذ التربية الخاصة بمؤسسة الحق في الحياة أن هناك تفاعلا بينه وبين الطلبة الثلاثة لاسيما عندما يشرح ويبسط الدروس لهم ،مشيرا إلى أن أطفال متلازمة داون يتعلمون المنهاج الحكومي حتى يصلوا للصف السادس وذلك لان المنهج غير معدل ليتناسب معهم.
ولفت أستاذ التربية الخاصة بأنه يجد صعوبة في تعليمهم قواعد اللغة العربية كالفاعل والمفعول به وكذلك الصور البلاغية ،موضحا في الوقت ذاته انه يعلمهم الدين الإسلامي وحب الله والرسول بالإضافة إلى تعريفهم بأعمال الخير.
وفي حديقة المؤسسة المكسوة بالحشائش الخضراء والأرائك الخشبية جلس بعض مصابي متلازمة داون يراقبون بعضهم البعض فمنهم من يلعب على الأرجوحات وآخر يكنس الحديقة كونه أصبح عامل نظافة في المؤسسة ،وثالث يقوم ببعض الأعمال الزراعية .
وأثناء مرور "الرسالة" من أمام الحديقة لتنطلق إلى مدرسة صلاح الدين شرق مدينة غزة للتعرف على الحالات الثلاثة المتواجدة فيها ،استوقفها بعض الحركات الرياضية التي كان يمارسها الأطفال الصغار مقلدين ما يؤديه مدرس الرياضة حيث الابتسامة التي كانت تغمر وجههم .
الخجل والخوف
توجهت "الرسالة" إلى الصف الثاني في المدرسة حيث يجلس نور ومصعب ورامي في المقاعد الأمامية والطلبة من حولهم يلتفون للحديث معهم وذلك في حصة الرسم.
بدت نور مفعمة بالحيوية حيث كانت تتنقل من بنك لآخر لتتحدث مع زملائها ،بينما مصعب والذي كان يردد بعفوية يصاحبها الخجل:بحب اكتب واجب الانجليزي ، وأشاهد توم وجيري واحضر باب الحارة ومعتز"،أما رامي فبقي طيلة الوقت صامتا مكتفيا بتقليب دفتره وعرض رسوماته التي خطتها يداه الصغيرتان.
المشرف على حالة الطلاب الثلاثة في المدرسة سهيل الددح قال:" قبل أن آتي للمدرسة كانوا معدومين لا يفهمون شيئا نظرا لعدم وجود أساتذة مختصين لمتابعتهم"،مضيفا :حينما أتيت للمدرسة أصبحت أراجع معهم الدروس وابسطها لهم .
وأشار إلى انه كسر حاجز الخجل والخوف لديهم مما دفعهم للتفاعل مع أساتذتهم، لافتا إلى وجود بعض الطلبة العاديين مستواهم الدراسي اقل من الطلبة الثلاثة.
ومن جهته كشف خالد أبو فضة رئيس قسم التربية الخاصة في وزارة التربية والتعليم عن وجود 22 طالبا وطالبة يعانون من متلازمة داون في مدارس القطاع الحكومية، مشيرا إلى أن الوزارة تستقبل ما يقارب العشر حالات كل عام بحيث يكون عمر "طفل الداون" ما يقارب الثماني سنوات.
وعن كيفية استقبال هؤلاء الأطفال في مدارس القطاع قال أبو فضة:"ترسل لنا مؤسسة الحق في الحياة قائمة بأسماء الأطفال الذين بإمكانهم أن يتفاعلوا مع الأطفال العاديين ومن ثم تقيمهم الوزارة بواسطة مشرفين مختصين"،موضحا أن الهدف هو دمجهم اجتماعيا أكثر مما هو أكاديمي.
ولفت إلى أنهم يستمرون بدراسة المنهاج الحكومي حتى الصف السادس وذلك لإعاقتهم العقلية واستيعابهم الأكاديمي الضعيف الذي لا يتحمل البقاء بالتعليم أكثر من ذلك، بالإضافة إلى أن الوزارة تنظر بعين الاعتبار إلى حجم وسن الطالب حينما يصل لنهاية المرحلة الابتدائية،مبينا في الوقت ذاته أن إعداد منهاج تعليمي خاص يتناسب مع مقدرتهم العقلية يحتاج إلى إمكانيات مادية وكوادر فنية مختصة.
وبحسب أبو فضه فانه تتم مراقبة ومتابعة هؤلاء الأطفال في المدارس الحكومية باستمرار بواسطة مشرفين مختصين ،مؤكدا على أن وزارته معنية بالاهتمام بكافة طلبة القطاع لاسيما المعاقين منهم وذلك لدمجهم في المجتمع وإشعارهم بإنسانيتهم.
نوع الكروموسوم
التقت "الرسالة نت" د. كمال الجعيفي المختص بمتابعة ذوي متلازمة داون للتعرف على المرض حيث ذكر أنه عبارة عن مرض خلقي ناتج عن خلل بالكروموسومات التي تكون زائدة عند المصابين، موضحا أن نسبة الخلل لدى الرجل لإنجاب أطفال منغوليين تمثل 10% بينما تبلغ النسبة 90% لدى المرأة ، ولا يمكن اعتباره مرضا وراثيا.
ويشير إلى انه يولد من بين كل 800 طفل عادي في قطاع غزة مصاب واحد بمتلازمة داون ، معتبرا وجود ما يقارب 3500 حالة ليست مقياسا لاعتبار وجود حالات كثيرة داخل المجتمع.
ويؤكد الجعيفي أن العمر والبيئة الخارجية لا علاقة لهما بإنجاب أطفال متلازمة داون ،خلافا لما كان يشاع بان السيدات الكبيرات بالعمر ينجبن منغوليين، مؤكدا وجود حالات ولادة لهذا النوع من الأطفال لسيدات في عمر الثامنة عشرة.
ونوه إلى أن المرأة التي أنجبت طفلا منغوليا وهي صغيرة فإن بإمكانها إنجاب طفل آخر مثله بنسبة 1% ،بينما إذا تجاوزت الأربعين من عمرها وأنجبت فان نسبة إنجابها ستكون 2% .
وعن موت مصابو متلازمة داون في سن مبكرة أوضح الجعيفي أن ثلث الأطفال يموتوا أثناء فترة الحمل ،وثلث آخر في العشر سنوات الأولى من عمرهم ،بينما الثلث الأخير يبقون على قيد الحياة وذلك حسب نوع الكروموسوم فمنهم من يصل عمره لـ70 عاما.
وبحسب الجعيفي فانه يمكن لحالات متلازمة داون الزواج ،إلا أن نسبة إنجاب الإناث لأطفال مصابين مثلهم أكثر من نسبة الذكور.
وفيما يتعلق بملامح ذوي متلازمة داون أشار إلى أن عيونهم كحبة اللوز كالقبائل التي تعيش جنوب شرق أسيا "المنغوليين" ويكون على بؤبؤ العين نقطة بيضاء، بالإضافة إلى أن آذانهم صغيرة اقل من مستواها العادي واللسان كبير وسقف الحلق صغير مما يدفع اللسان ليكون دائما خارج الفم.
ولفت الجعيفي إلى أن أطراف متلازمة داون تكون قصيرة ، ووجههم دائري الشكل ،لاسيما عند منطقة الذقن ،بالإضافة إلى أن الأنف يكون مفلطح عريض مما يسبب لهم مشاكل بالتنفس.
ويتعرضون للسمنة أكثر من غيرهم لإفراطهم بالطعام نظرا لتخلفهم العقلي وعدم شعورهم بالشبع ، كما أنهم يعانون من ضعف عام بالعضلات في منطقة المعدة بحيث يصابون بالفتاق كما قال الجعيفي،بالإضافة إلى أنهم يعانون من عيوب خلقية بالقلب تعرضهم لالتهاب متكرر بالرئتين .
ويضيف بان هؤلاء الأطفال لديهم درجة عالية من الإحساس لذلك يحتاجون لرعاية خاصة وأخصائيين يعالجونهم بلطف ،بالإضافة إلى أنهم يتضامنون مع الناس بالأفراح والأتراح.
محظور اجتماعي
من جهته قال الأخصائي الاجتماعي د. درداح الشاعر :"من الضروري وضع أطفال متلازمة داون في مدارس خاصة لعدم مقدرتهم على التعليم العادي كباقي رفاقهم، بالإضافة إلى تشغيل الكبار منهم في الأعمال التي لا تحتاج لنشاط عقلي و تفكير معقد".
وفي سؤال طرحته "الرسالة نت" عن مدى تقبل المجتمع الفلسطيني لوجود "المنغوليين" أجاب الشاعر:" المجتمع الفلسطيني لا يتقبل وجودهم في الغالب بسبب النظرة الاجتماعية والثقافية الخاطئة التي تدفعهم للميل إلى التعامل مع الأسوياء وأصحاب الانجازات"، مبينا أن غالبية المصابين بمتلازمة داون لا يعملون في المؤسسات الاجتماعية الفاعلة مما يحرمهم اكتساب المهارات التي تساعدهم على الاندماج بالمجتمع .
وكثيرا ما يشاع بان مصابي متلازمة داون يؤذون الأشخاص العاديين وفيما يختص بذلك ذكر الشاعر بان هذا الخوف لا مبرر له فهم لا يشكلون أي نوع من الخطورة على الأشخاص الأسوياء.
يشار إلى أن بعض الأسر حينما تنجب طفلا منغوليا تعيش حالة نفسية سيئة, وفي بعض الأحيان تخفي الطفل عن الآخرين وحول ذلك دعا الشاعر الأهالي بالنظر إلى الطفل باعتباره نعمة من الله ولابد من تقبله ، بالإضافة إلى ضرورة أن يتذكروا الأجر العظيم في الآخرة في حال أحسنوا معاملته وتربيته.