ترجم كثيرون التغيير الواضح في الموقف المصري تجاه قطاع غزة بأنه رد فعل على الخلاف الفتحاوي، وأن الإجراءات والتسهيلات التي يجري الحديث عنها تأتي في سياق معاقبة رئيس السلطة محمود عباس؛ لرفضه إجراء مصالحة داخلية في حركة فتح، وبالتالي فمصر تدعم القيادي المفصول محمد دحلان.
والحقيقية أن اختصار التغيير المصري على الأزمة الداخلية الفلسطينية يحوي قصورًا واضحًا في الرؤية، ويتجاهل المتغير المصري وهو الأقوى في المرحلة الراهنة، حيث تقول المعطيات إن التغيير الجاري هو عودة لسياسة كانت قائمة لدى جهات سيادية في مصر منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك والتي بقيت تتبعها مصر طوال عقود مع قطاع غزة.
ويعتبر جهاز المخابرات العامة المصرية، ممثلاً برئيسه اللواء عمر سليمان في حينه، من أبرز الجهات التي تبنت هذه السياسة، وبقيت تتعامل بها حتى عقب أحداث العام 2007، التي كانت لا تزال السلطة تحتفظ بقوتها السياسية أمام حركة حماس المحاصرة في غزة.
وليس سراً أن مصر التي كانت ترفض التعامل مع الحكومة في غزة، واعتبرتها غير شرعية، غضت الطرف عن الأنفاق التي أنشئت جلها في عهد مبارك، كما سمحت بفتح المعبر بشكل متقطع، واستخدمت رجال أعمال فلسطينيين ومصريين لتمرير البضائع إلى غزة، والأهم أنها تغاضت عن هدم الحدود أكثر من مرة، ودخول أهالي القطاع لمنطقة سيناء بهدف شراء احتياجاتهم من المواد الأساسية.
واستثمرت مصر الوضع القائم في غزة في ذلك الوقت؛ لجلب مزيد من الاستقرار إلى منطقة مهمشة ومهملة مصرياً "سيناء"، حيث انعكس التبادل التجاري الكبير عبر الأنفاق على أهالي المنطقة الذين تحولوا من مهربين وكادحين إلى تجار وأصحاب رؤوس أموال، واستُبدلت البيوت المتهالكة الصغيرة ببيوت فخمة؛ ما أدى إلى انتعاش اقتصادي، وبالتالي تراجع التهديدات الأمنية وخلق حالة من الاستقرار في سيناء.
هذه السياسة حافظت عليها مصر بعد ثورة 25 يناير وفي زمن المجلس العسكري، وحتى في السنة التي حكم فيها الرئيس محمد مرسي مع وجود تسهيلات أكثر في عهده تجاه غزة.
الانقلاب الكبير في التعامل مع غزة جرى مع صعود عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم وسيطرة المخابرات الحربية التابعة للجيش المصري على مقاليد الأمور في البلاد، مقابل تراجع واضح لدور المخابرات العامة، وهو ما انعكس على التعامل مع سيناء وامتداداها الجغرافي والأمني "غزة".
واستخدمت مصر سياسة كسر عظم ضد غزة من خلال تدمير الأنفاق، وإغلاق المعبر لفترات طويلة، وخلق مناطق عازلة على الحدود بين مصر وغزة، تلك الإجراءات خلقت أزمة في سيناء، وجعلتها منطقة مشتعلة ومن أكثر المناطق غير المسيطر عليها في مصر، وشهدت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة سلسلة عمليات من الجماعات الجهادية من ضمنها داعش ضد مواقع ومقرات ودوريات الجيش المصري.
الأزمة الطاحنة في شبه الجزيرة المصرية، وتحول المئات من عمال الأنفاق وسائقي الشاحنات إلى عناصر جهادية، دفع القيادة المصرية للعودة إلى سياسة الاحتواء بعد فشل سياسة الحسم والصدام، والمفارقة أن سيناء باتت تتأثر بوضع غزة أكثر من القاهرة، كونها امتدادها الطبيعي جغرافياً وأمنياً، وبالتالي فإن المدخل للهدوء فيها يأتي عبر بوابة الأمن القومي المصري "غزة".
وتدرك القاهرة أن المدخل الأول للاستقرار في سيناء، تفعيل العلاقة مع غزة وخلق حالة من التبادل التجاري الذي من شأنه أن يخفف من الاحتقان وحالة الضغط في الخاصرة الرخوة لمصر، كما بات من الواضح أن تعويل الأخيرة وبعض الجهات المعادية للقطاع على أن الضغط الاقتصادي واغراقه في الأزمات سيجعله يركع على يد الشقيقة الكبرى.
مفارقة أخرى أثرت على السياسة المصرية وهي أن ضغوطها لم تضعف حركة حماس التي بقيت متماسكة وقوية، وإنما من ضعفت هي حليفتها فتح التي تعيش أكبر حالة تشرذم وانشقاق حالياً، وربما تعكس المكالمة المسربة بين دحلان ومسؤول الملف الفلسطيني في المخابرات المصرية اللواء وائل الصفتي، الرؤية المصرية اتجاه الوضع الفلسطيني، خاصة حينما قال إن أبو مازن عاجز عن إدارة الوضع الفلسطيني، وفتح تعاني وتنقسم على نفسها في حين حماس تقف قوية ومتفرجة.
التقارب وعدت به مصر في لقاء جرى بداية العام بين المخابرات المصرية ونائب رئيس المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق، وهو ما ترتب عليه اللقاء بين وفد من الأخيرة والمخابرات المصرية في مارس الماضي، والذي أعطت فيه المخابرات وعودا قوية بتحسين الوضع في غزة، وحل جزءا كبيرا من أزماتها مقابل شروط وضعتها أمام حماس.
انتظرت مصر فترة طويلة معولة على الضغط والأزمات التي تعاني منها غزة، لكن يبدو أنها بعد استنزاف حماس في الشروط، وإدراكها أنها لا يمكنها أن تقدم أكثر مما قدمت، لذا بدأت في تنفيذ سياستها القديمة الجديدة.
وبقيت تراكمات السنوات الأخيرة التي شنت فيها مصر بأذرعها الإعلامية والأمنية والقضائية أشرس حملة ضد حركة حماس، وصلت حد اتهامها بالإرهاب، حاضرة أمام بعض الجهات السيادية في مصر، ما خلق اختلافا بين هذه الجهات وأخرى تدعم العودة لسياسة الاحتواء مع غزة، وللنزول عن الشجرة بدأ البحث عن عناوين أخرى غير حركة حماس، فكان المدخل نواب موالين لدحلان، وهذا ما جعل الجميع يعتقد أن دحلان يقف خلف هذا التغيير المصري.
والحقيقة أن التقارب ليس بسبب دحلان، والدليل أن رجال الأعمال الذي خرجوا لمؤتمر عين السخنة 2 ليسوا محسوبين على الخصم اللدود لأبي مازن، كما أن بعض من نسقوا للمؤتمر كان عماد الفالوجي المعروف أنه رجل عباس، إضافة إلى أن المخابرات المصرية هي من تتولى الملف بالكامل، بما في ذلك من تنسيق وفتح المعبر والمؤتمرات والتواصل مع الشخصيات، ما يؤكد على أن العنوان للتقارب بعيد عن دحلان.
ورغم ذلك فإن دحلان استفاد من هذا التقارب ليظهر نفسه كمخلص لغزة من أزماتها، ومصر لا تمانع في أن يستفيد من المتغير الحالي ضمن حدود معينة.
كل المعطيات الحالية تشير إلى انفراجه حقيقية في انتظار قطاع غزة، لكن لا يمكن إغفال أن هذا التقارب سيكون سلاحا ذا حدين، فهي في المقابل ستكون أوراق ضغط تستخدمها مصر في كل محطة ضد حماس خاصة فيما يتعلق بوضع سيناء، وضد أبو مازن لأنها ستعاقبه سياسياً ومالياً لإصراره على مخالفة الاجماع العربي، وضد دحلان نفسه لأنها تجعله أسيرًا للنظام المصري.
في المقابل ستشكل الورقة الفلسطينية قوة لمصر اقليمياً، كونها تملك التأثير والضغط على أطراف اللعبة في القضية الفلسطينية، وتقطع الطريق على بعض الدول مثل تركيا وقطر التي سبقت الجميع في ملف غزة.
وأمام هذه المؤشرات يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات لمستقبل العلاقة بين مصر وغزة:
السيناريو الأول: هو التقارب بين مصر وغزة والتعامل مع حماس اجبارياً، وليس برغبة مصرية حقيقية وهذا الخيار هو الأقرب للواقع، ويتقدم بقوة.
السيناريو الثاني: هو الصدام كما كان متوقعًا في بداية عهد السيسي لكن واضح أن هذا السيناريو تراجع أمام ضبط النفس التي تعامل بها القطاع، والحاجة المصرية الملحة إلى تحسين العلاقة مع امتداد أمنها القومي في غزة.
السيناريو الثالث: وهو رغبة مصر في فرض سيطرتها على غزة، ضمن تحالفات المنطقة والتقسيمات التي تجري حالياً، وما يخدم هذه السيناريو العلاقة الإستراتيجية بين مصر وإسرائيل، حيث ترى الأخيرة أن الوضع في الإقليم يمكن أن يدفع نحو حالة أشبه بما جرى بعد العام 1967 بمعنى ضم غزة لمصر، وهو سيناريو قائم لكنه يبقى بعيد المدى، ومرهونا بما ستؤول إليه الأوضاع الإقليمية والمتغيرات الداخلية الفلسطينية.