قائد الطوفان قائد الطوفان

الحاخامات واستراتيجية التحكم من بعد

د. صالح النعامي

لا خلاف على أن قيادة الجيش الإسرائيلي هي التي أملت على حكومة ليفي أشكول عام 1967 الخروج للحرب ضد كل من مصر وسوريا؛ ولم يعد سراً أن معارضة قيادة الجيش قد أحبطت توجه الحكومة الإسرائيلية عام 1997 للانسحاب من جنوب لبنان؛ كما أنها أحبطت توجه حكومة إيهود براك عام 1999 للتوصل لتسوية سياسية مع سوريا، عندما قامت بعض المستويات في الجيش بتسريب وثيقة سرية لقيادة المعارضة اليمينية تدلل على أن براك أبدى استعداده لتقديم تنازلات كبيرة لسوريا مقابل التوصل لسلام شامل مع دمشق، وهو ما دفع براك في النهاية للتراجع عن تعهداته للسوريين.

وهذه المعطيات بالضبط هي التي حفزت التيار الديني الصهيوني على محاولة الاستحواذ على المواقع القيادية في الجيش والمؤسسة الأمنية.

 وتدلل كل المعطيات على أن مرجعيات ونخب التيار الديني الصهيوني في (إسرائيل) قد قررت اختراق الجيش والمؤسسات الأمنية بهدف تمكين هذا التيار من التأثير على مقاليد الأمور في الكيان الصهيوني بشكل جذري.

صحيح أن الخدمة العسكرية في (إسرائيل) إجبارية وتفرض على كل من بلغ الثامنة عشر، إلا أن الجيش الإسرائيلي لا يفرض على المتجند اختيار الوحدات والألوية التي يتوجب عليه الانضمام إليها، حيث يترك الأمر لرغبة الجندي. وقد بات واضحا أن مرجعيات التيار الديني الصهيوني قد أمرت عناصرها بالالتحاق بالألوية والوحدات القتالية والأجهزة ذات التأثير الكبير على دائرة صنع القرار.

 ويتضح أن حرص الحاخامات على اختراق المتدينين للهيئات القيادية العليا للجيش جاء ضمن تصور استراتيجي يهدف إلى زيادة تأثير التيار الديني على عملية صنع القرار، بحيث يضمن في البداية منع الحكومة الإسرائيلية من اتخاذ أي قرار سياسي يتناقض مع مواقف التيار الديني، سيما فيما يتعلق بمصير الأراضي المحتلة ومستقبل تسوية الصراع مع العرب، وطابع العلاقة بين الدين والدولة، وفي مرحلة لاحقة يمهد هذا الاختراق الواسع الطريق أمام التيار الديني الصهيوني للوصول إلى قيادة الكيان الصهيوني.

لقد أدركت المرجعيات الدينية الصهيونية أن المجتمع الصهيوني ينظر بإجلال كبير للضباط والجنود الذين يخدمون في ألوية الصفوة والكتائب المختارة والوحدات الخاصة، حيث يحظى هؤلاء بهالة واحترام كبيرين، وغالباً ما يتمكن كبار الضباط من ممارسة تأثير سياسي كبير بعد تقاعدهم من الخدمة العسكرية. وتتنافس الأحزاب على تطعيم قوائمها الانتخابية بكبار الضباط في الاحتياط، من هنا فإن معظم رؤساء الوزراء وكثيراً من الوزراء والنواب هم من الجنرالات المتقاعدين الذين "تميزوا" خلال حروب (إسرائيل) ضد الجيوش العربية.

من هنا، فإن المرجعيات الدينية اليهودية تأخذ بعين الاعتبار أنه كلما احتل الضباط المتدينون المتأثرون بمصادر التفكير الديني اليهودية و"فقه" الحاخامات وتوجيهاتهم، مناصب عليا في الجيش كلما كان بالإمكان مضاعفة التأثير على دائرة صنع القرار في تل أبيب من خلالهم، بحيث يكون من المستحيل تمرير قرار يتجاوز الخطوط الحمراء التي يحددها التيار الديني.

وقد عبر الحاخام إيلي سدان، الذي يعد من قادة الصهيونية الدينية، وصاحب فكرة تأسيس المدارس الدينية العسكرية التي تعمل على تهيئة الشباب المتدين للخدمة العسكرية، عن هذا التوجه بشكل صريح، حيث قال:" يتوجب علينا عدم الانفصال عن الدولة، بل نحن مطالبون بالوصول إلى كل الأجهزة، الجيش والمخابرات، والجهاز القضائي، حتى نتمكن من تصميم الدولة بشكل مثالي وفق منهجنا".

وتكتسب شهادة الحاخام سدان أهمية خاصة، حيث أن المدرسة الدينية التمهيدية التي أقامها في مستوطنة "عيلي" الواقعة بالقرب من مدينة رام الله قد خرجت عددا كبيرا من كبار القادة العسكريين والأمنيين. ويعد سدان ليس فقط من قادة الصهيونية الدينية، بل أكثر ارتباطا بالجيش والمؤسسة الأمنية، ويتم التشاور معه في كثير من القضايا.

ويتضح أن المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني قد أدركت حجم التأثير الذي يتمتع به الجيش في عملية صنع القرار السياسي، بسبب الطابع الخاص للبيئة الأمنية التي نشأت فيها (إسرائيل)، ووجودها في حالة حرب متواصلة مع العالم العربي.

 وتعي المرجعيات الدينية اليهودية أن كلاً من المستوى السياسي المنتخب والرأي العام الإسرائيلي يوليان أهمية قصوى لتقديرات المستوى العسكري، التي تقدم على أنها تقديرات مهنية لا تحركها الاعتبارات السياسية والأيدلوجية.

فعلى الرغم من أن النظم الديموقراطية توجب على المؤسسة الأمنية تطبيق تعليمات الحكومات المنتخبة، فإن الواقع دلل على أن المستوى العسكري في (إسرائيل) نجح في كثير من المرات في جر المستوى السياسي إلى خطوات عسكرية وسياسية تحت وطأة تأثيره الطاغي؛ لدرجة أن راجت مقولة "(إسرائيل) هي دولة يملكها جيش".

البث المباشر