لأن الحاجة أم الاختراع كما يقولون، ولأن الأسرى الفلسطينيين لم يستسلموا لقهر السجان الذي يرمقهم بنظرة غضب طوال اليوم، وهم يحاولون التلاؤم مع كل الظروف العصيبة التي وضعوا بها في الزنازين، فقد لجؤوا إلى كثير من الأشياء التي تخفف عنهم وطأة البعد عن العالم الخارجي، وتشعرهم أنهم ليسوا مجرد أرقام في عد الصباح.
"هيهات أن ينالوا من عزيمتنا" قالها فرسان خليفة الأسير المحرر في صفقة وفاء الأحرار بكل إصرار، حين حكى لـ"الرسالة" عن "الفيس بوك الورقي" في سجن ريمون الذي كان الأسرى يتابعون منشوراته يوميًا عن كثب، دون وجود خدمة الإنترنت هناك.
ففي سجن "ريمون" ذي الزنازين الضيفة عام 2010، لمعت فكرة إنشاء الفيس بوك الورقي، وذلك لإسقاط الواقع الحقيقي على الأسير ونفسيته، وكي يتوسع أفقه من خلال معرفة آراء الآخرين في بعض المواضيع، والأهم من ذلك حتى يشعر أنه غير منقطع تمامًا عن العالم الخارجي.
"مارك الفلسطيني"
يضحك "خليفة" حين يعود بذاكرته إلى الفيس بوك داخل السجن، يقول: "كان فيس بوك بتعليقات وحظر، ولكنه ورقي"، حيث اتفق الأسرى على أن يتم طرح فكرة يوميًا كمنشور وكتابتها على دفتر، ومن ثم يتم توزيعه على جميع المشاركين من الأسرى في جميع الغرف والأقسام، للتعليق على المنشور وقراءة تعليقات غيرهم والرد عليها.
فاسم "مارك" ليس فقط هو الذي يعرف به رجل الأعمال والمبرمج الأمريكي الذي أنشأ موقع الفيس بوك، لكنه أيضًا اسم "عضو مجلس الشورى" في السجن، والذي يختاره الأسرى للقيام بدور "مارك" ويختص بمتابعة أوراق الفيس بوك والمشتركين فيه.
على دفتر يتكون من 42 صفحة، يكتب أحد الأسرى "فكرة" ويبدأ الأسرى بكتابة وجهات نظرهم بحيث لا يتجاوز التعليق ثلاثة أسطر، كي يبقى هناك مجال لبقية المشتركين بإبداء آرائهم.
لم يقتصر التعبير عن الآراء التي تخص الأفكار التي تُطرح في الفيس بوك الورقي بين غلافي الدفتر، والنقاش ليس مؤقتًا ينتهي بمجرد كتابة التعليقات فحسب، بل ينتهزونها فرصة للحديث والنقاشات حولها في الفورة بساحات السجن أو الغرف وأيضًا عند أي فرصة لاجتماعهم.
مواضيع كثيرة يروي "خليفة" لـ"الرسالة نت" عنها كانت محط نقاش الأسرى، فهو كما يقول "رغم المساحة الضيقة التي يحاول السجان وضع الأسير بها إلا أن أفقه واسع، فهو دومًا يحاول التحليق خارج الزنازين رغم أنف سجانه، وذلك بمتابعة البرامج على الراديو وقراءة الكتب التي يقطع بها وقته.
والأفكار المطروحة لا تقتصر على المواضيع الاجتماعية، يقول: "أحيانًا يحدث نقاشات حادة بين الأسرى لاختلاف آرائهم حول فكرة معينة، وتكون الموضوعات سياسية ودينية وفقهية"، ويضحك متابعًا: "هناك عقاب لمن يخالف تعاليم "مارك" الفلسطيني".
بأسماء مستعارة يكتب الأسرى آراءهم على صفحات الفيس بوك الورقي، بينما تكون معروفة لدى المسؤول، ليجري العقاب على من يخالف التعليمات ككتابة تعليقات بأسلوب لا يحترم وجهات نظر الآخرين، أو استخدام ألفاظ لا يصلح استخدامها في علاقة أخوية كعلاقة الأسرى.
"كيف كان الحظر؟" كان السؤال حاضرًا تمامًا كذكريات "خليفة" التي تزاحمه حين الحديث عن حياته داخل الأسر، وتذكره بالأسرى الذين جمعته بهم علاقة طيبة، يضيف: "البلوك كان بحرمان الأسير من التعبير عن رأيه وتمزيق صفحته من دفتر الفيس بوك ومسح اسمه من قائمة المشتركين".
ولم يكن "الفيس بوك الورقي" هو الاختراع الوحيد الذي ابتكره الأسرى لقهر سجانهم في حياتهم اليومية، فـ "كنافة العز" التي يصنعها الأسرى داخل السجون كحلوى في المناسبات، وأيضًا "المقلوبة الكذابة" التي ينقصها كثير من المكونات، كلها استحضرها "خليفة" الذي راح يحكي عن ذكرياته في السجن بإسهاب وكأنه انتظر أحدًا لينبشها.
ينهي حديثه "ننتظر بفارغ صبر أن يتحرر كل الأسرى، فنحن رفقاء محنة جمعتنا جدران الزنازين وبانتظار أن تجمعنا سماء الحرية قريبًا".