لوثة

مطر
مطر

 نجوى غانم 

في مدينة عرفت في العالم الشاسع بصمودها خمسين يوما ونيف تحت الصواريخ والقذائف المدفعية، وقف السكان تحت سماء تتفجر عن مطر هائل حملته الريح من مكان بعيد بارد، يرفعون أكفهم بالدعاء أن تغلق السماء بواباتها حتى لا تبتل جراحهم التي لم تلتئم بعد.


وفي أحد بيوت المدينة ذاتها جلست هي في إحدى الزوايا بملابس مبللة ووجه شاحب تتلفت حولها بملامح مضطربة وعيون زائغة ويداها تضمان طفلا يبكي. يغض معظم من حولها البصر عنها، بينما يحدق فيها البعض للحظات، ثم يقلبوا وجوههم بسرعة إذا ما التقت العيون. في بيت اللجوء الذي احتواها مع غيرها من مشردين البرد والغرق، تصفحت الوجوه المعرضة عنها وتلاقت عيناها أخيرا مع عينين إحداهما نصف مفتوحة ودمعة قاسية ترتجف داخلها، لامرأة يبدو ان لوثة أصابتها فرسمت ابتسامة ساخرة على وجهها. شجعتها بحلقة العين النصف مفتوحة فيها على بدء الحديث.


- لقد جرفت المياه صغيري وهو ينام في سريره، حملته وجرت به بعيدا عن متناول يدي 
ردت المرأة وعينها النصف مفتوحة تبكي بدموع باردة هادئة، والبسمة المخيفة لا تزال مرسومة على وجهها
- حتى لو طالته يدك ما كنت منقذته. أراحه السيل من حياة نموت فيها كل يوم!
- لقد فاجأتنا المياه تغمرنا من كل صوب، المياه مخادعة تماما كالرجال، ظهرت فجأة واقتلعت خيمتنا التي نصبناها قرب أنقاض بيتنا المقصوف، لقد كان لنا بيت، لا تستغربي نعم لقد كان لنا بيت، له جدران ونوافذ وباب معدني، لا تستطيع الأمطار تدميره ولا تتمكن السيول من جرفه معها.
أخذوا صغيري دون أن ألقي عليه نظرة الوداع!


- الأرض تضم الغرباء وتحنو عليهم أكثر من البشر.
- لكن الأرض مبللة بالمياه وحتما سيشعر صغيري بالبرد وملابسه مبللة على حبل الغسيل امام الخيمة!
ازدادت العين النصف مفتوحة بحلقة مركزة النظر هذه المرة على الطفل الذي تضمه بين ذراعيها
- لا أتحدث عن هذا الولد بل عن أخيه الذي جرفه السيل وهو في سريره، هذا تمكنت من انتشاله من الماء لكن....


 أوقف صوت الرعد المتواصل الذي هز الأبدان معلنا انهمار المطر بجنون كلامها وجميع الحوارات والتمتمات داخل البيت، وأخذ الجميع ينصت بشيء من الرعب لزمجرة الطبيعة في الخارج، بينما أخذت عينيها في الاتساع وازداد تشبثها بملابس ابنها وبدأت تشدها من الخلف فتخنقه ياقة معطفه المسحوبة بقوة للوراء، وكأنها تصارع مجهولا يحاول اقتلاعه من بين ذراعيها.


يصرخ الطفل ويحاول تخليص نفسه من جذبها الشديد، لكنها لا تسمع صراخه، فكلما رعدت الغيوم تجذب ملابسه أكثر ويزداد اتساع عينيها وتضطرب شفتاها ببضع كلمات غير مفهومة.


يتدخل الناس من حولها لتخليص الطفل من يديها لكنها تحكم قبضتها حول ملابسه دون أن تدرك الأذى الذي تسببه له فالهلع ينمو بجنون داخلها ولو أن صدرها انفجر وسال منه خوفها لغطى الدنيا كلها ولجعل كل من حولها يقبض معها على طفلها لكي لا تجرفه المياه.


عج المكان بالهرج وتمكن رجل قوي البنية بعد صراع طويل من اقتلاع الطفل المنهار من بين يدي المرأة بمساعدة بعض النسوة اللاتي جذبن جسدها المهتاج للخلف.
حمل الرجل الطفل بعيدا عن المرأة واخذت هي تصرخ بجنون لن يأخذه منى السيل لن تغرقه المياه....المياه مخادعة صرخات مدوية تلت تلك الكلمات ثم فجأة تصلب الجسد المتهالك صريعا!


ساد الصمت ولم يسمع غير زمجرة الطبيعة تزداد في الخارج!

 

البث المباشر