استرخاء!

ألم
ألم

الرسالة نت


رشا فرحات


فضلت أن تجلسني هذه المرة في غرفة بدت وكأنها علبة مخملية محكمة الإغلاق، لدرجة أنها بدون نوافذ!
وقالت إن الهدوء والانعزال سيساعدان على الاسترخاء أكثر، بينما أشعلت الأضواء الخافتة، والموسيقى الهادئة.
 ألقيت نظرة على التفاصيل، الغرفة صغيرة إلى حد كبير، فيها سرير جلدي واحد، بجانب كشاف كبير مطفأ.


بينما عُلقت لوحة زيتية لزهرة التوليب على الجدار، وُنثرت على رفوف خشبية معلقة بعض الأزهار المجففة ورُصت شموع ملونة أشعلتها الطبيبة لاحقا، وإلى جانبها بعض من زجاجات الزيوت العطرية.

وبينما طليت الجدران بلون وردي مختار بعناية فائقة، نثرت أيضا على سطحها نترات لامعة ملونة كقوس قزح فبدت وكأنها ثوب عروس!
 وتساءلت بيني وبين نفسي عما إذا كان هنالك سر بين الجدران البراقة والقدرة أكثر على الاسترخاء، لكني لم أسألها.


ملامحها كانت مكفهرة، لم أر في المرتين اللتين أتيت فيهما إلى عيادتها أي من الزبائن، وكأني كنت زبونتها الوحيدة!
 تروح وتجيء بشكل آلي، بدون أن تتكلم معي، أو حتى تنظر في وجهي أو تبتسم، وكأنها جزء طبيعي من مشهد المدينة، وقد أضحت الابتسامة الموجودة على الوجوه شيئا مثيرا للاستغراب.


ألصقت شرائح مطاطية بين رقبي وكتفاي، كانت موصولة بأسلاك تنتهي بجهاز الماساج الكهربائي ووضعت فوقه ضمادة ساخنة لفتها بمنشفة كبيرة وطلبت مني أن استلقي، ولكني رفضت، واكتفيت بالجلوس فوق المقعد وإلقاء رأسي على طرف السرير، تعجبت وقالت لي أن الجميع يفضل الاستلقاء!

شعورها بأنها ملزمة بإراحتي جعلها تضع أسفل وجهي الملقى على طرف السرير مخدة وثيرة ناعمة.
اطمأنت على راحتي، سألتني مرارا إذا ما كنت مرتاحة، وشعرت أنها تخاف من عبثية ما تفعل، وعدم جدواه!

فبالغت أنا بوصف الراحة التي أشعر بها!


أغلقت الباب وخرجت لتتركني أتأمل صوت الموسيقى، ولون الجدران، وزهرة التوليب المعلقة على الحائط، وذبذبات الجهاز التي تتزايد شيئا فشيئا فوق كتفيّ!
عادت بعد قليل وكأنها نسيت شيئا، ثم بالغت جدا في سؤالي عن مدى ارتياحي في المقعد وكررت عرضها بأن أبدل جلستي وأتمدد على السرير فكررت رفضي وفضلت الكرسي، مع أني كنت بحاجة إلى الراحة، دائما أنا بحاجة إلى الراحة، ولكن حاجتنا إلى الراحة لا تعني بالضرورة أننا نعرف الطريق إليها!


في كل اللحظات أنا بحاجة إلى راحة ما، ولكني أعلم تماما أني لست بحاجة إلى النوم على سرير لأرتاح، ربما بت أكره الآسرة؛ تذكرني بأرقي المتواصل ونومي المتقطع.
ارتسمت على وجهي ضحكة السخرية حينما أصغيت للموسيقى التي بدأت تتخللها أصوات لأمواج البحر، تحاول هي الأخرى أن تساهم باسترخائي، عجبا كيف نتحايل على الواقع ثم نقنع أنفسنا بجدوى ذلك! وكأننا نعطي أكتافنا إبرة مخدر مؤقتة، تنسينا الألم قليلا، أنا الآن لا أشعر أبدا بجدوى ذلك.
كانت الجلسة مختلفة وتوحي بأنها ستكون أكثر راحة بالنسبة لي من المرة الفائتة.


ففي تلك المرة أجلستني الطبيبة في الغرفة الأخرى بسبب انقطاع الكهرباء، بينما كانت تعتذر كل ربع ساعة وكأنها ارتكبت جرما!
تلك الغرفة بائسة وجدرانها غير مطلية، تملأها أصوات أبواق السيارات، فنافذتها تطل على الشارع الرئيسي، أو على أكثر الأحياء اكتظاظا في المدينة، وحينما تطل برأسك، سترى المستشفى الرئيسي الوحيد أمامك، وسيارات مكتظة تتزاحم على مدخله، بينما يرتص على الرصيف المقابل للمسجد المجاور باعة اللوز والفراولة والبرتقال، إلى جانب بائع احذية بائس، يدللون على بضاعتهم بأقل الأسعار، قبل أن تبور بسبب منع التصدير وقلة الشراء!


في ذلك اليوم كانت الغرفة مزدحمة بالأصوات المزعجة كما قالت الطبيبة وهي تكرر اعتذارها، كما أنها غير مريحة للأعصاب على حد قولها ولا تساعد على الاسترخاء، فلا كهرباء ولا موسيقى، ولا جدران لامعة.


ولكنها أيضا لم تقل إنها الغرفة الوحيدة التي تطل نافذتها على ضوء الشمس، ليس ذلك فحسب.

كانت تطل على الحقيقة أيضا.

البث المباشر