في هذا الصيف، تنقضي أربع سنوات على الحرب الأخيرة في غزة أو عملية "الجرف الصامد"، أغلب المحللين توقعوا حينها بأن اتفاق وقف إطلاق النار (الترتيب) الذي تحقق بانتهائها بوساطة المخابرات المصرية سينهار خلال وقت قصير، كاتب هذه السطور كان قد قدر بعد الحرب ان الاتفاق سيبقى. كانت تلك أربع سنوات من الهدوء الذي سمح لسكان غلاف غزة بعهد من الازدهار والتوسع، لكنها أيضًا أربع سنوات ضائعة. الأسبوع الدموي في غزة دشن نهاية هذا العهد، وإن لم يُقتل إسرائيليون في المظاهرات.
في "الجرف الصامد" انجر الطرفان إلى الحرب دون أن يرغبا في ذلك، كان ذلك تصعيدًا معروفًا مسبقًا، بدأ باختطاف الشباب الثلاثة في "غوش عتصيون" وقتلهم بأيدي نشطاء حماس، واستمرار إطلاق الصواريخ على الجنوب وردات الفعل المضادة التي قام بها سلاح الجو. هذه هي التفسيرات المقبولة لما حدث، لكن أحد الاسباب الخفية لاندلاع الحرب كان الإغلاق الذي فرضته إسرائيل على مليوني فلسطيني في القطاع، الإغلاق فرض في أعقاب سقوط جلعاد شاليط في الأسر، لكنه استمر أيضًا بعد إطلاق سراحه في صفقة التبادل المخزية، حماس - التي كانت حينها تعاني من العزلة الدولية والضائقة - ظنت ان الحرب هي حل معقول للخروج من التيه.
بالمناسبة، من بين ثمار تلك الصفقة الخمجة أن عائلات ابرا مانغيستو وهشام السيد، اللذين اجتازا الحدود إلى غزة (جمعة إبراهيم أبو غنيمة لا يعتبر أسيرًا لأنه انتقل إلى غزة بمبادرة شخصية منه، وانتمى إلى التنظيم "الإرهابي") وعائلات غولدن وشاؤول الذين يريدون إعادة جثث أبنائهم؛ جميعهم يعانون اليوم. الحكومة الإسرائيلية وبحق مصرة على عدم تكرار تلك الصفقة.
على أية حال، إسرائيل لن توافق على أكثر من إطلاق بضع عشرات من "المخربين" من غير الملطخة أيديهم بالدماء، وإعادة جثامين "مخربي" حماس (تحتجز إسرائيل اليوم 25 جثمانًا كورقة مساومة)، وتطالب قبل بدء المفاوضات مع حماس بأن تعرض أدلة على ان المواطنيْن ما يزالان على قيد الحياة. حماس ترفض ذلك، وتطالب وقبل البدء في أي مفاوضات بأن تحرر إسرائيل العشرات من أسراها. المخابرات المصرية وعلى ما يبدو - وإلى حد ما قطر أيضًا، وجهات أوروبية ممّن يزورون غزة - يتوسطون في الاتصالات التي يجريها يرون بلوم، ممثل رئيس الحكومة لدى "الشاباك" لشؤون الأسرى والمفقودين (ومع هذا الطاقم التابع "للشاباك"، هناك "الموساد" والاستخبارات العسكرية)، ولكن لا تلوح أي صفقة في الأفق.
الوقت الثمين الذي انقضى منذ صيف 2014 لم يستغل للدفع باتجاه اتفاق واضح، لأن الطرفين متهمان بذلك، لكن هذا الأمر لا يغير الحقيقة الأساسية: وضع غزة وسكانها تدنى إلى أقصى الحدود. وزير الأمن أفيغدور ليبرمان يمنع المؤسسة الأمنية من ان تعرّف ما يجري هناك بـ "الكارثة الإنسانية"، لكن الحقائق لا خلاف عليها؛ فالمجاري تتدفق في الشوارع وتتسرب إلى باطن الارض وتلوث مخزون المياه تحت الأرضي في إسرائيل أيضًا، هناك خطر مباشر لانتشار الأوبئة والحدود لن تمنعها، الكهرباء تتدفق لمدة ثلاث ساعات يوميًا في المتوسط، والنقص في الأدوية والعتاد الطبي.
منذ سنوات، توصي المؤسسة الأمنية - ويؤيدها وزراء الكابينت مثل يسرائيل كاتس ونفتالي بينت - بالقيام بمبادرة لإعمار القطاع، وبالمناسبة مع الحرص على الحفاظ على المصالح الأمنية الإسرائيلية، حتى "الشاباك" - الذي لم يكن متحمسًا للفكرة - اقتنع بها. لا ينقصنا مبادرات وأفكار: إقامة جزيرة صناعية وميناء على بعد حوالي كم واحد عن غزة، وإقامة محطة للطاقة ومصنع لتحلية المياه، وطبعًا ترميم الطرق ومنظومات المجاري وغير ذلك، والأموال أيضًا لا تنقصنا، قطر والعربية السعودية والاتحاد الأوروبي واليابان والصين سيسهمون بحصصهم.
لكن جميع هذه المبادرات لجمت في البداية لدى وزير الأمن السابق موشيه يعلون، والذي يذكر أنه هو من دشن مصطلح "كي الوعي" (وعي الفلسطينيين)، والآن لدى ليبرمان، حتى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو - على الأقل في المرحلة السابقة، قبل ابتهاج العام الأخير - درس بإيجابية خطوات بهذا الاتجاه.
وهكذا وصلنا إلى الحلم، ليبرمان يفرض على الحكومة سلوكها ويضع شروطًا مسبقة للإعمار: إعادة الاسرى والقتلى ونزع سلاح القطاع، وحينها أيضًا إسرائيل لن تحري مفاوضات مباشرة مع حماس لأنها تعتبرها تنظيمًا "إرهابيا". في هذه الظروف اليائسة والضائقة والحصار، تتزايد الصعوبة التي تواجه حماس في الحكم، تحاول مرة تلو الأخرى أن تجتاز الطريق المسدود من خلال العنف وسفك الدماء التي لا تعتبر مهمة من وجهة نظرها، وإسرائيل بسياسة استخدام القوة تقع في الفخ، حماس ليست معنية بالحرب، لكن وكما في 2014 فقد تمتصنا مرة أخرى.
لا شك بأن إسرائيل صادقة، ليس هناك أي دولة سيادية يمكن ان تسمح لنفسها بأن يخترق أعداؤها حدودها، إسرائيل انتصرت هذا الأسبوع في المواجهة، حماس ركعت، ولكن الثمن باهظ. الجيش الإسرائيلي كان يستطيع ان يستخدم الحكمة أكثر واللجم وضبط النفس، فالـ 62 شهيدًا في يوم واحد و110 في ستة أسابيع كثير جدًا، من المهم ان تكون صادقًا، لكن يجب ان تكون حكيمًا أيضًا، وأن تكون ذا خلق أيضًا، لن يضرك شيء، هناك أيضًا ثمن اقتصادي، ولن أتحدث عن تضرر صورة إسرائيل.
وفي النهاية، كان منفرًا بما يكفي ان تسمع وزراء الحكومة وكبار الضباط (بمن فيهم المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الجنرال رونين مانليس) وهم يشرحون ويحللون الوضع ولا يدلون ولو بشطر عبارة واحدة تبدي أسفًا على موت عشرات الفلسطينيين؛ على الأقل أولئك الذين لم يكونوا أعضاء في حماس والجهاد الإسلامي.
نقلا عن اطلس للدراسات