في شهر رمضان تزينت أسواق وأبواب المحال التجارية بقطاع غزة، بالمخللات المشهورة بـ"الطراشي" المنوعة والملونة وتصبحُ أكثر جاذبية للزبائن الصائمين عندما تتلون بالصبغات، إلا أنها تخفي خلف شكلها الجذابة "كوارث صحية" كبيرة، وذلك بفعل استخدامات خاطئة.
وتحتل المخللات مكانًا رئيسيًّا على مائدة الأسرة الفلسطينية، ومهنة يزداد رواجها في قطاع غزة وخاصة في رمضان.
مشهد تزاحم باعة المخللات في الاسواق الشعبية والطرقات بشكل ملحوظ، دفع "الرسالة" للتنقيب عن كيفية صناعة المخللات والمواد التي يستخدمها التجار لتصبح أكثر جاذبية للمارة ليصفوا امامها لشرائها.
وقبل بداية البحث في هذا الموضوع التقى معد التحقيق بأحد العاملين داخل مصنع للمخللات في مدينة غزة، للاستفسار عن كيفية صناعتها وعن طبيعة المواد التي تستخدم في تخليلها وهل تشكل خطورة على صحة المواطن.
"الرسالة نت " لاحظت خلال تواجدها في مكان تصنيع المخللات، كم الأوساخ التي تكسو المكان وبراميل التخليل.
وبعد دقائق معدودة من تواجدنا داخل المصنع اصطحبنا أحد العاملين خارجه لأنه يمنع دخول غير العاملين، حيث كشف لمعد التحقيق بأن كافة الألوان التي تزين المخللات تحمل معالم مجهولة لكون اصحاب المصانع يستخدمون اصباغا خاصة بصبغ الملابس "غير غذائية" اثناء عملية التخليل، بهدف إضفاء لون ملفت على المخللات.
وقال لـ"الرسالة نت "، يسمح باستخدام محدود لمواد كيمائية اشبه بالمواد الحافظة لكونها تعمل على الاسراع في عملية نضوج المخلل، إلا أن اصحاب مصانع يضيفون تلك المواد دون معايير محددة من أجل إنضاج المخللات خلال أيام معدودة وذلك يحصل فعليا خاصة في صنفي الفلفل والخيار".
الاقتصاد: العشرات من مصانع المخللات العشوائية تعمل في المنازل
وكانت "الرسالة نت " أعدت تحقيقا حول استخدام أصحاب مصانع الطعام أصباغا "مجهولة" وغير صحية، ودقت ناقوس الخطر بسبب استخدامها المفرط من قبل المواطنين. الجهات المسؤولة وعدت بإنهاء هذ الظاهرة، إلا أن هذه الوعود لم تطبق على أرض الواقع، وبقيت صحة المواطن في خطر أمام غياب الرقابة.
وبعد هذه المعلومات التي حصل عليها معد التحقيق من إحدى العاملات في مصانع المخللات في غزة، طرقنا باب الجهات المعنية التي بدأت حديثها بأن استخدام مواد ضارة للإنسان هي مجرد إشاعات، وأنها تمارس عملها في متابعة مصانع "الطراشي".
إلا أن "الرسالة نت "، أجرت جولات ميدانية على أكثر من معمل في منازل المواطنين وهي غير مرخصة من وزارة الصحة والاقتصاد الوطني، حيث يعمل أصحابها في منازلهم دون مراقبة الجهات المسؤولة، ويستخدمون المواد التي من شأنها أن تسرع عملية التخليل بـ"أريحية" دون رقابة.
استخدام أصباغ خطيرة
أبو محمد الذي يبلغ من العمر "55 عاما" ويعمل في مهنة التخليل منذ أكثر من (25 عاما)، قال: "هناك بعض المصانع والمعامل المنزلية تستخدم صبغات غير غذائية (صبغة ملابس)، لجذب الزبائن من خلال الألوان الزاهية بكميات كبيرة".
وأوضح أبو محمد لـ"الرسالة نت "، أن وزارة الاقتصاد والصحة في غزة حذرت أكثر من مرة بعض أصحاب المصانع، إلا أنهم ما زالوا يستخدمونها.
وعن استخدام بعض المصانع للمواد الكاوية مثل (ماء النار)، قال "أعتقد أنه لا توجد أي مصانع تستخدم ماء نار لتسريع عملية استواء المخلل، وحديث الناس يدور حول استخدام المصانع الخل المركز الذي يعبأ في جالونات زرقاء اللون".
وأضاف "من شدة حموضة الخل المركز، وللحرقة التي يسببها حال ملامسته الجلد يظن البعض أنه "ماء النار"، ولكنه في الحقيقة خل شديد التركيز وتسمح وزارة الصحة والاقتصاد باستخدامه.
ولفت إلى أن أصحاب المعامل المنزلية يعملون دون علم وزارة الصحة والاقتصاد الوطني، وهم ليسوا أصحاب مهنة، لذلك قد لا يعرفون ما هي الكميات اللازمة لـ"برميل" واحد من "الطراشي"، إضافة إلى استخدامها بكثرة حتى تسرع عملية التخليل.
الصحة: يوجد تجاوزات من أصحاب المصانع المنزلية كونهم يعملون بدون علم مسبق
وحول طريقة إعدادها يلفت أبو محمد إلى أنها تخزن قبل 40 يوما من موسم رمضان لتكون جاهزة للبيع خلاله، ويتم استخدام مواد خل مركزة، توضع بكميات مناسبة على "برميل" المخلل حتى لا تسبب أي مخاطر صحية للمواطن.
وتمر صناعة المخللات بعدة خطوات، يتم خلالها تقطيع الخضراوات، ووضعها لوقت قصير في المياه المغلية وتمليحها لبضع ساعات وتجفف من الرطوبة لتمتص الأطعمة مزيداً من الخل والملح، وتترك عدة أيام لتكتسب نكهتها.
تأثيرات كارثية على الصحة
معد التحقيق حمل هذه القضية لرئيس قسم الكيمياء الدكتور رامي مرجان، الذي أكد أن المخللات تحمل تأثيرات كارثية على صحة الإنسان، خاصة على صحة الصائمين، الذين يقبلون عليها بكثرة.
وأوضح مرجان، أن مضار المخللات على الصحة ناتجة عن أمرين هما، الاصباغ والأملاح الشديدة، مشيراً إلى أن الأملاح (كلوريد الصوديوم) الشديدة التي تضيفها المصانع للحفاظ على صلاحية المخلل لأطول مدة ممكنة تتسبب بفقد الجسم الكثير من المياه، وتشعره بالعطش الشديد.
ولفت إلى ان الأملاح الشديدة ترفع من ضغط الدم، وتعمل على احتباس الماء في الجسم، وعلى المدى البعيد قد تسبب أمراض الكلى، والقلب، والشرايين.
وفيما يتعلق بالأصباغ، ذكر مرجان أنها تحمل تأثيرات كبيرة على الصحة ومصنفة على أنها مواد مُسرطنة، ومن الممكن على المدى البعيد أن تتسبب في تلف خلايا المخ، والكبد، والكلى.
مختص كيميائي: أصباغ المخللات تحمل تأثيرات كارثية على صحة الإنسان
ونصح مصانع المخللات بضرورة استخدام الاصباغ بالنسب التي تسمح بها منظمة الصحة العالمية، كما نصح المواطنين بالتقليل من استخدام المخللات لما لها من مخاطر على الصحة.
معامل مخللات عشوائية
معد التحقيق توجه إلى مدير عام دائرة المستهلك في وزارة الاقتصاد بغزة الأستاذ عبد القادر بنات، للاستفسار عن آلية الرقابة على محلات ومصانع المخللات حيث قال في بداية حديثه: " يوجد في غزة المئات من المعامل العشوائية، وتعمل بالمنازل دون علم الجهات المختصة".
وأوضح أن الجهات المختصة في وزارة الاقتصاد تجري عمليات مراقبة في الأسواق، وتتابع بعض شكاوى الموطنين. وأكد أن الطواقم المختصة تعاني من إشكالية وجود معامل لتصنيع المخللات في المنازل، والتي تعمل بمواد مجهولة المصدر ودون معايير محددة.
ولفت إلى أن هناك تجاوزات لبعض المواطنين الذين يعملون في مهنة تخليل المخللات، حيث يعملون في هذه المهنة دون علم مسبق وهدفهم جني الربح خاصة في المواسم كرمضان.
وعلى مدار الأيام والأسابيع الماضية أتلفت الجهات الرقابية المسؤولة عددا كبيرا من المخللات، نظراً لاستخدام بعضهم اصباغا غير غذائية، وفساد الكميات، وعدم حصول أصحاب بعض المصانع على ترخيص لمزاولة الحرفة، وكذلك عدم نظافة المكان.
تجاوزات للمصانع المنزلية
"الرسالة نت " توجهت إلى رئيس قسم الطب الوقائي "مراقبة الأغذية" في وزارة الصحة بغزة المهندس زكي مدوخ، حيث أكد وجود شروط معينة لعمل محلات المخللات وبيعها في قطاع غزة، ولا تُمنح ترخيصاً إلا بوجودها.
وقال مدوخ لمعد التحقيق: "يجب أن يكون المكان المستخدم لتخليل "الطراشي" على قدر كبير من النظافة، سواء أرضه أو جدرانه وسقفه، وكذلك عدم استخدام أي مواد حافظة وصبغات غير مرخصة من وزارة الاقتصاد والصحة".
المباحث: أتلفنا آلاف الأطنان من المخللات غير الصالحة في أسواق غزة
وأشار مدوخ إلى أن هناك مشاكل تواجه طواقمه من نقص الإمكانيات اللوجستية والكادر البشري، ما يؤدي إلى ضعف الرقابة في الأسواق وعلى مصانع المخللات، وخاصة المعامل المنزلية.
وأوضح أن طواقمه تتابع هذا القضية بالتنسيق مع الجهات المشتركة وهي بلدية غزة، ووزارة الاقتصاد الوطني، منوها إلى أنهم أتلفوا قبل أيام كميات كبيرة من الطراشي في أسواق غزة.
ونفى مدوخ أن استخدام أصحاب المصانع "ماء النار" على "الطرشي"، قائلا "ما يتم استخدامه هو الخل المركز فقط".
ولفت إلى أن دائرة الطب الوقائي في وزارة الصحة تُراقب وتُشرفُ على الأسواق خاصة في أيام رمضان المبارك، وهي في نشاط دائم رغم قلة عدد الكوادر، داعياً الأجهزة الرقابية الأخرى لتكثيف الرقابة خاصة مع ارتفاع اعداد المصانع وباعة المخللات في الأسواق والمحال التجارية، ودخول تجار ليس لديهم خبرة كافية في هذا المجال.
ونصح مدوخ المواطنين بضرورة عمل المخللات في البيت، للتحكم بنسب الملح، وجودة المواد المخللة، ولضمان عدم وضع أي نوع من الاصباغ، لتفادي مخاطر الاصباغ والاملاح الشديدة.
مواد محضورة
كما التقى معد التحقيق بأحد باعة المخلات في سوق الشيخ رضوان، الذي يُعلل استخدام الخل والأصباغ بأن هذه الأغذية لا تنضج إلا بهما، قائلا "في بعض الأحيان نستخدم مواد أخرى حتى تسرع فورانها في أقل مدة" دون الكشف عن طبيعة تلك المواد.
وعند سؤاله عن هذه المواد أجاب، "أنا عن نفسي لا أستخدمها لكن أسمع عن بعض التجار باستخدام أشياء محظورة"، حيث رفض التعريف عن نفسه، واكتفى بهذا التعليق.
بلدية غزة: مراقبة تصنيع وبيع المخللات من اختصاص وزارتي الصحة والاقتصاد
و"ماء النار" هو الاسم المُستخدم لـ حمض النتريك HNO3، ولديه قدرة على إذابة المعادن المختلفة بما فيها الفضة، ويسبب تشوهات للجلد، ويؤثر على العين والتوازن لمجرد استنشاقه.
إتلاف المخللات
وخلال البحث عن الجهة المسؤولة لمتابعة مصانع ومحلات بيع المخللات، التقت "الرسالة" أحمد قنيطة مدير مباحث التموين والمعادن الثمينة في الشرطة بغزة، حيث أقر أن الطواقم الفنية أتلفت آلاف الأطنان من المخللات خلال الشهر الماضي، لأنها غير صالحة للبيع، وبسبب عدم اتباعها المعايير الصحية.
وأوضح قنيطة، أن هناك تعاونًا مستمرًا مع وزارة الاقتصاد والصحة والبلدية، مما يساعد في الكشف عن أصحاب المعامل المنزلية الذين يهملون في النظافة، مضيفًا: "أثناء جولاتنا الميدانية نفتش على المحلات داخل مدينة غزة للتأكد من السلامة العامة".
جولة البحث قادت "الرسالة نت " إلى بلدية غزة، باعتبارها المسؤولة عن ترخيص هذه المحلات ومصانع المخللات، وهناك قال رشاد عيد رئيس قسم مراقبة الأغذية والتراخيص المهنية والصحية في البلدية، "إن مراقبة مصانع ومحلات الطراشي من اختصاص وزارتي الصحة والاقتصاد بشكل أكبر".
وأشار عيد في حديثه مع "الرسالة" إلى أن طواقم البلدية تجري حملات رقابية على المحلات من الناحية الفنية ومعايير السلامة الصحية.
وذكر عيد أن البلدية لا تعطي تراخيص لمحلات المخللات، إلا بعد أن يحصل أصحابها على ترخيص معتمد من الاقتصاد والصحة، مؤكدا أن مئات المصانع المنزلية في غزة غير مرخصة، ولا توجد جهات مختصة تتابعها باستمرار، وفق قوله.
ولا شك أن الجهات المختصة مطالبة بمضاعفة جهودها في ضبط محلات ومصانع الطراشي في غزة، والتأكد من التزامها بالمعايير الصحية، وذلك حفاظاً على سلامة المواطنين من الأمراض التي ترهق وزارة الصحة لاحقاً بمعالجتها.