د. يونس الأسطل
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (
( البقرة : 183 )
حلَّ علينا شهر رمضان هذا العام ونحن أكثر طمأنينة إلى أننا ذاهبون إلى النصر والتحرير، فقد بلغ السقوط السياسي لسلطة رام الله حَدّاً لا يَقْبَلُ به إلا من فقد كرامته أو آدميته؛ فإن الذين غَلَبوا على أمرهم يقولون أن لا جدوى من وراء المفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، واليوم هناك مقايضة الدعم المادي بالذهاب إلى المفاوضات المباشرة بعد ثمانية عشر عاماً لم يَبْقَ فيها لأولئك المفاوضين غير ورقة التوت ليتنازلوا عنها في مقابل رغيف الخبز الذي لا زال إِدَامُهُ من دماء الشهداء، ودموع اليتامى والأرامل والثكالى، على وَقْعِ أنين الأسرى والجرحى والمشردين، وإن قائمة مطالب الصهاينة لا حدود لها، بل لا نهاية لها في مقابل الوعود بتسهيلات شكلية، ويمضي الاحتلال في التهويد، والْتهام الأرض، ومصادرة المقدسات، وإجراء المناورات؛ استعداداً لمزيد من الحرب والعدوان.
إن فشل السلطة في تحقيق أي إنجاز إلا المطاردة والاعتقال، والتعذيب، وإذلال الناس بالتوازي والتعاون مع الاحتلال يعني حالة من الاحتقان تنذر بالانفجار الأعنف مما اجتالهم في غزة من قبل، فإذا انضاف إلى ذلك تنفيذ التلويح بقطع المساعدات، أو رفع غطاء الشرعية المزيفة عنهم، أو حتى اعتبارهم مقصرين في تحقيق المطالب الأمنية التي تعهدوا بها، كان أولئك المرتمون تحت أقدام الاحتلال في وضعٍ لا يحسدون عليه، وسيجدون أنفسهم مضطرين إلى الاحتماء بالناس الذين اضطهدوهم من أجل عيون الصهاينة من قبل، أو بالمقاومة التي طالما اكتوتْ بتعاونهم الأمني مع اليهود، ويومها سيقعون بين المطرقة والسندان، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون، وما ظَلمهم الله، ولكنْ كانوا أنفسهم يظلمون.
ولعل الأسوأ حظاً منهم هم الزعامات العربية التي تعطي الغطاء للمفاوضات المباشرة؛ رضوخاً للأمريكان والصهاينة على حدٍّ سواء، ومن خلال لجنة المتابعة العربية.
ذلك أن أسيادهم الأمريكان يوشك أن يهربوا من العراق وأفغانستان، وبعد أن بدأ التحالف الفاشل يتفكك، فقد قررت القوات الهولندية وغيرها الهروب من هناك على وَقْعِ الضربات اليومية التي تلتهم المزيد من القتلى في صفوفهم في منحىً تصاعدي خطير، فإذا حصل ذلك قامت الشعوب على حكامها الظلمة، فأطاحوا بهم، خاصة وأن الأمريكان أنفسهم يعترفون بأن الجهاد اليوم الذي يسمونه (القاعدة) هو أقوى منه قبل سبع سنين حين غزوا ديار الإسلام باسم القضاء على الإرهاب.
من كان يتصور أن الجيش اللبناني – المسيحي القيادة والعقيدة- سوف يتصدى للتوغل الصهيوني في الجنوب، ويوقع فيه القتلى، دون شراكة المقاومة؟!، ومن كان يتصور أن الصواريخ التي انهمرت على مدينة إيلات الصهيونية ستكون من أرض الأحباب في النظام المصري؟!، إنه التغيير الواضح لصالح المقاومة والممانعة، والانتكاس الكبير للمشروع الصهيوني والداعمين له، ولا زالت الأيام تُخَبِّئ المزيد من المفاجآت التي تزيد المقاومة صعوداً، والاحتلال تقهقراً، وتضيف للمنافقين رجساً إلى رجسهم.
أما آية الصيام فتنبئ المؤمنين بوجوب الصوم عليهم، كما كتب على جميع من قبلهم من الأمم، وأن الله تبارك وتعالى قد أراد بهذا التكليف أن يمتحن قلوبهم للتقوى، وكانوا أحقَّ بها وأهلها، والعاقبة للتقوى، والآخرة عند ربك للمتقين، فالجنة عرضها السموات والأرض، أُعِدَّتْ للمتقين.
إن التقوى لفظ لكل ما يُتَوقى به من شرور الدنيا والآخرة، ولعل أخطر ما في الأمر أن الشهوتين اللتين أُمِرْنا بالإمساك عنهما عندما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ليلة الصيام إلى الليل في أيام معدودات؛ هما السرُّ في شقاء البشر من لدن آدم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ألم يكن آدم في جنةٍ له فيها ألاَّ يجوع ولا يَعْرَى، وأنه لا يظمأ فيها ولا يَضْحَى، باستثناء شجرة بعينها لا يحلُّ له قربانها، فضلاً عن تناول شيءٍ من ثمارها؟!، ولسوف يحاول إبليس أن يُزَيِّنَ لك ولزوجك أن تأكلا منها؛ لتشقى، وليبدي لهما ما وُورِيَ عنهما من سوءاتهما، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وكانت العاقبة هي الخروج من الجنة؛ ليصبح الحصول على الحاجات بِشِقِّ الأنفس.
ثم ألم يكن دافع قابيل لقتل أخيه هابيل هو حسده له أن كانت مخطوبته وضيئة، فَسَوَّلتْ له نفسه قتل أخيه فقتله؛ ليفوز بها؛ لكنه أصبح من النادمين، ومن الخاسرين، ومن يومها والقتل واقع بنا؟!.
ولعل أكثر الأمم شقاءً باجتماع هاتين الشهوتين فيهم هم بنو إسرائيل، فقد فُضِّلوا يوماً على العالمين، فقد آتاهم الله الكتاب والحُكْمَ والنبوة، واختارهم على علمٍ على العالمين، وجعل منهم أئمةً يهدون بأمره؛ لما صبروا، وكانوا بآياته يوقنون، كما كان فيهم أمة يَهْدُونَ بالحق، وبه يَعْدِلُون، فطهروا بيت المقدس من القوم الجبارين، كما كان منهم الفئة القليلة التي ثبتتْ مع طالوت، فهزموا جالوت وجنوده، وكانوا مائة ألفٍ أو يزيدون.
لكن بعض الأجيال المتراخية قد تَوَحَّلُوا في الفواحش، وأكلوا أموال الناس بالباطل؛ ذلك أن نبينا عليه الصلاة والسلام حين حذرنا من الدنيا حذرنا من النساء، وأخبرنا أن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وقد وصل بهم الانحراف من بعد إلى الكفر بآيات الله، وإلى قتل النبيين بغير حَقٍّ، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس.
أما الشهوة الأخرى فقد ظهرت هزيمتهم أمامها منذ قالوا لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام: لن نصبر على طعام واحد، وطلبوا أطعمةً بُقُوليةً وخضرواتٍ بديلاً عن المَنِّ والسلوى، كما أنهم جحدوا من بعد معجزات سيدنا عيسى عليه الصلاة السلام، وطلبوا إنزال مائدة من السماء؛ ليأكلوا منها، وتطمئن قلوبهم، ويتأكدوا أنْ قد صدقهم في ادِّعاء النبوة.
وقد جَرَّ عليهم ذلك حرمانهم من بعض الطيبات بتحريمها عليهم، يوم أخذوا الربا، وقد نُهُوا عنه، وأكلوا أموال الناس بالباطل، وقد سَرَى هذا السلوك المشين إلى كثيرٍ من الأحبار والرهبان، فهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله.
وقد جَرَّ عليهم اجتراؤهم على بعض المحرمات من المطعومات أنْ قيل لهم: كونوا قردة خاسئين، فقد اعتدوا في السبت، واحتالوا لصيد السمك برمي شباكهم فيه، وإخراجها يوم الأحد، فَلُعِنوا على لسان داوود، فَمُسِخوا قردة، كما أن الذين كفروا بعيسى بعد نزول المائدة لُعِنوا على لسانه فَطُمِسَتْ آدميتهم، وصاروا خنازير.
لقد تفرد قوم لوطٍ بإتيان الذكران، فجعل الله عز وجل قراهم عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، كما انهزمت امرأة العزيز أمام جمال سيدنا يوسف، لكنه استعصم، وآثر السجن، ومكث فيه بضع سنين.
كما تفرد قوم شعيب بتطفيف الكيل، وبخس الميزان، فأخذتهم الرجفة، وأخذهم عذاب يوم الظُّلة، كما أُهْلِكَ قارون بأن خسف الله به وبداره الأرض.
ولا زالت هاتان الشهوتان حين تسيطران على أمةٍ تُرْدِيها أسفل سافلين، فقد كنا خير أمة أخرجت للناس، لكننا اليوم نسمى بدول العالم الثالث، وما ذلك إلا بسبب رَتْعِ الحكام والذين أَوَوْا إلى حظيرتهم، في الأموال والفواحش، فَأَحَلُّوا قومهم دار البوار، وحين نبتتْ فينا فئة قليلة من الصائمين القائمين الذين يتطلعون إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض؛ أذاقت الاحتلال الصهيوني والأمريكي وبال أمرهم، ولسوف تكون عاقبة أمرهم خُسْرا.
وتهانينا بشهر الخيرات والبركات