أ. يوسف علي فرحات
جاء الإسلام فوجد مجتمعاً تحكمه حالة من الفوضى في كل المناحي ، ومن ذلك فيما يتعلق بالتحليل والتحريم ، حيث ترك هذا الأمر للأهواء والرغبات ، وفي هذا أشار القرآن الكريم
( ولاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ( [ النحل : 116] . وقد عالج الإسلام هذه الفوضى من خلال منهج يقوم على جملة من القواعد والضوابط تمثلت في الأمور التالية :
أولاً : الأصل في الأشياء الإباحة
كان أول مبدأ قرره الإسلام : أن الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع، هو الحل والإباحة، ولا حرام إلا ما ورد نص صحيح صريح من الشارع بتحريمه، فإذا لم يكن النص صحيحاً أو صريحا في الدلالة على الحرمة، بقي الأمر على أصل الإباحة.
وقد استدل العلماء على هذا الأصل بقوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ( [البقرة:29 ] .
مع العلم أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان، بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وهي التي نسميها "العادات أو المعاملات" فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقيد إلا ما حرمه الشارع وألزم به .
وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي. وفيها جاء الحديث الصحيح (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ) .
وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع منشئا لها. بل الناس هم الذين أنشؤوها وتعاملوا بها، والشارع جاء مصححا لها ومعدلا ومهذبا، ومقرا في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.
ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ( [ الشورى:21 ]
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ( [ يونس:59 ] .
وقد ناصر الإسلام الإباحة في تشريعاته وغلبها على التحريم بخلاف الشرائع السالفة إذ اتسمت تلك الشرائع جميعها بتغليب التحريم تشديداً على أقوامها وأممها وإن شئت فاقرأ من القرآن قول الله تعالي ( ظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً ( أو اقرأ قوله سبحانه (وعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (
أما الإسلام فقد جاء ليفك عنهم قيود التحريم والحظر , ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم , وما تلك إلا مهمة رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي جاء رحمة للعالمين والقرآن في ذلك صريح فقد قال تعالي: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( .
والقرآن الكريم يُغلِّب الإباحة في آياته , وبألفاظه وإشارته وبإطلاقاته لألفاظ الإباحة ثم بحصره وعده وتحديده لما حرمه .
فقد أطلق الإباحة لكل زينة وكل طيب مستنكراً على من يحاول تحريم بعضها أو كلها فيقول سبحانه ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(
وقد أنكر على كل من يُحرم شيئاً ظناً منه أو جهلاً ويطالبهم بالدليل والبرهان فيما حرموه وذلك في قوله تعالي : (قلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( كما اتخذ أسلوب الحصر والتحديد لإثبات قلة ما حرم على عباده بصفة ( إنما ) التي تفيد الحصر والقصر كما في قول الله تعالي : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( [ الأعراف : 33]
ويُذِّكر سبحانه الناس أنه فَصَّل لهم ما حرمه عليهم تفصيلاً فقال :( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ( أي أن الذي حرَّمه فصله ذكراً وأن ما دونه فهو المباح .
كما يُكثر القرآن من صيغ الإباحة والحل وعدم الإثم والمؤاخذة في آياته .
فعلى سبيل المثال وردت صيغة : ( لا جناح عليكم ) في القرآن خمسة وعشرين مرة إلي غيرها من الصيغ الدالة على الإباحة مثل : ( أحل لكم ) .. ومثل (فلا إثم عليه ) ..
وإذا ما استقرأنا السنة النبوية الشريفة فإن انتصارها للإباحة واضح ظاهر وصدها لمن يحاول التحريم ويولع به بين جلي .
فا هي السنة تُجرم من يتسبب في تحريم الأشياء بسؤاله فيحرم الله على الناس من أجل مسألته ما لم يكن محرماً من قبل ففي سنن أبي داود روى البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي قاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ". [ سنن أب داود ، باب لزوم السنة ، رقم 4610]
ثانياً : التحليل والتحريم حق الله وحده
فقد جعل الإسلام حق التحريم والتحليل لله تعالى فلا أحبار أو رهبان، ولا ملوك أو سلاطين، يملكون أن يحرموا شيئاً تحريماً مؤبداً على عباد الله. ومن فعل ذلك منهم فقد اعتدى على حق الربوية في التشريع للخلق، ومن رضي بعملهم هذا واتبعه فقد جعلهم شركاء لله ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ( [ الشورى:21 ] . وقد حذَّر القرآن الكريم من ذلك ، فقال تعالى : ( ولاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ( [ النحل : 116]
وقد نقل عن السلف رضي الله عنهم تحوطهم في إطلاق الحلال والحرام ، فقد روى الإمام الشافعي في كتابه (الأم) عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: " أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتيا، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير. وحدثنا بعض أصحابنا أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا : هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا!!
كما نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يُسألُ عن الأمر فيقول: أكرهه أو لا يعجبني، أو لا أحبه، أو لا أستحسنه . ومثل هذا يروى عن مالك، وأبي حنيفة وسائر الأئمة رضي الله عنهم.
لذا اعتبر الإسلام تحريم الحلال وتحليل الحرام قرين الشرك بالله ، فقد جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم عن عياض بن حمار قال الله تعالى : ( إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ).