في الشوارع المعتمة وبينما نرقد نحن في بيوتنا بسلام يدور رجال لا يعرفون معنى للراحة، ويواظبون على أعمالهم حتى منتصف الليل.
بين الخطر والخوف والبعد عن عائلاتهم يدور النقيب هيثم النمس الذي يعمل في شرطة المرور، في سيارة الشرطة رافعا صوته عبر المايكرفون ناصحا المتجمعين بالعودة إلى بيوتهم والمحلات بأن تغلق في الموعد المتفق عليه حتى لا ينتشر الفايروس أكثر وتتسع دائرة الإصابات.
النقيب هيثم النمس (34عاما) متزوج وأب لخمسة أطفال، خاض تجربة مؤلمة من كل النواحي، لا تخلو من لحظات وجع، تعرف على شرائح مجتمعية، منها ما كان يحمل الأمر بكل جدية ومنهم من كان يستهتر حتى تحولت منطقته إلى موبوءة.
يقول النمس: "كنت أعمل اثنتي عشرة ساعة متواصلة تمتد من الواحدة ظهرا حتى الواحدة ما بعد منتصف الليل، في الدوريات المتحركة بين البيوت والمنازل ووظيفتي هي منع التجمع في الشوارع وتوعية الناس لخطورة الفايروس.
ويضيف: التزمت العمل حتى أصبت في الأول من الشهر الجاري ودخلت الى الحجر الصحي في المستشفى الأوروبي وأنا أعاني من أعراض المرض مع زوجتي وأبنائي الاثنين".
يقاتل النمس على جبهات كثيرة في هذه المحنة، فهو يرى أن الفايروس انتقل إليه من المنطقة الشمالية، حيث يعتقد الناس أن الأمر لا يحتاج لكل هذه الإجراءات فيقول: "في الشمال وتحديدا في منطقة مستشفى كمال عدوان كنت أرى التجمعات أمام باب المستشفى المليء بالإصابات.
يتابع: كان ذلك يثير تعجبي، كنت أشعر أنني في سينما والناس جاءوا للتفرج على ما يدور داخل المستشفى، وهذا ما أدى إلى تفشي الإصابات، ومن هناك أتوقع أن العدوى انتقلت لي".
ويكمل منفعلا: "حتى عندما نرى حالة في الشارع تعاني من تعب مفاجئ لأي سبب آخر كان الناس يتجمعون بشكل لافت ودون وعي أو خوف، نحاول أن نبعدهم عن منطقة الخطر ولكن دون جدوى!
يقول النقيب:" أريد أن أرسل رسالة واحدة للناس هذا مرض مجهول المعالم، ومختلف الأعراض، منا من يقدر على المواجهة ومنا من لا يقدر وفي كل الأحوال لا أحد يعرف طاقة جسده في التصدي للمرض.
يضيف: "الطريقة الوحيدة لتقليل الحالات هي الحجر ومنع التجمعات، أعرف أن أوضاع الناس مؤلمة في ظل انقطاع الكهرباء وحاجتهم للعمل، ولكن هذا ليس مبررا، فهناك فترات قد يقوى فيها الفايروس وقد يكون قاتلا وفتاكا، ولا أحد منا يعرف كيف سيتكون مقاومة جسده لهذا المرض".
ويؤكد النقيب أن بعض المناطق التزمت تماما بتعليمات الحجر كتل الهوا التي لم يكن فيها أي تجول، كما أن المحال التجارية تغلق في الموعد المحدد.
وفي لحظات الضعف كان النمس يتألم كأي مواطن آخر، يقول:" كنت أعود محبطا وزاد احباطي حينما ثبتت إصابتي، عانيت من المرض والحرارة المستمرة، والحجر، وزاد وجعي حينما توفي شقيقي وأنا في الحجر ولم أستطع توديعه، كنت أبكيه بصمت في غرفتي.
تجرع النمس إلى جانب المرض مرارة فراق غير متوقع، خاصة وانه لم ير أخاه قبل الحجر، ورغم أنه يسكن في رفح على بعد أمتار من منطقة الحجر في المستشفى الأوروبي إلا أنه لم يتمكن من رؤيته حتى من بعيد.
يسكن النمس في منطقة الصبرة، ويعاني الحي الذي يسكنه أيضا من ارتفاع في عدد الحالات، ورغم أنه قد حاول ان يحجر نفسه بعيدا عن زوجته وأطفاله إلا أن العدوى انتقلت إليهم أيضا.
ويلفت النمس إلى أنه اتخذ كل إجراءات السلامة والتعقيم الدائم قبل دخوله الى المنزل، وخلال عمله أيضا، موضحا أن زميلا له نقل العدوى إلى بيته من خلال ملابسه.
وفي ساعات عمله الطويلة كان النمس يتألم لأنه يرى الكثيرين وقد استهتروا بإجراءات السلامة، وعلى الرغم من أنه يعيش في عائلة ممتدة إلا أن الإجراءات التي اتخذها استطاعت حماية بقية العائلة في البناية السكنية من أي عدوى لأنه منع الاختلاط معهم مطلقا، ولكنه لم يستطع منع زوجته من معاونته في لحظات مرضه حينما كانت تخر قواه ولا يستطيع الحركة، وهذا ما نقل لها العدوى.
كان هيثم منفعلا جدا وهو يحدثنا عن تجربته، مقدرا لكثير من الأحياء التي كانت تتعامل مع الأمر بكل رقي وتحضر وحينما ذهب إلى حي برشلونة في تل الهوا ووجد الشوارع فارغة من أصحابها أصابه الألم من الصمت الذي تحولت إليه الحياة في غزة، ولكنه بدأ يبكي عندما أخذ الأهالي يخرجون ويصفقون ويغنون من النوافذ مقدمين له ولزملائه تحية اخترقت صمت الليل المخيف.
بكى هيثم النمس فرحا لأنه شعر للحظة بأن هناك جدوى مما يقوم به وسعادة بأن هناك من يقدر عمله ويشجعه على الإكمال قائلا:" كنت منهكا، كنت في حالة انهيار، وفجأة يخرج الغناء والتصفيق من النوافذ يرسل لي رسالة تقدير، فشعرت بقوة ما أفعل، وبأن هناك من يفهم رسالتي، ويقدرها.