قائد الطوفان قائد الطوفان

الخطابات البلاغية في مؤتمرات المناخ وصناعة التضليل.. ماذا بعد؟

جورج كرزم
جورج كرزم

جورج كرزم

كلنا يذكر بأن الهدف الرسمي الأساسي المعلن لمؤتمر المناخ في غلاسكو (COP 26الذي انعقد في نوفمبر الماضي، هو التوصل لاتفاق دولي حول كيفية منع متوسط درجة حرارة سطح الأرض من الارتفاع أكثر من 1.5 درجة مئوية، بالمقارنة مع المستوى الحراري قبل الثورة الصناعية (أي قبل أكثر من مائتي سنة).

  تجاوز هذا الحد الحراري، بحسب العلماء، يعني ارتفاع خطِر لا يطاق في الاحترار العالمي، مثل موجات الحرارة المميتة، وشح المياه، وفساد كبير في المحاصيل الزراعية وانهيار النظم الإيكولوجية. ذلك أن كل ارتفاع عشري بسيط في الاحترار العالمي (أكثر من 1.5 درجة مئوية) سيجعل العالم يعاني ظواهر مناخية متطرفة، إضافة إلى انهيارات اقتصادية، وعشرات ملايين لاجئي المناخ وزعزعة الاستقرار الأمني في العالم وغير ذلك.

السؤال الأساسي المطروح: ما أهم النتائج التي تمخضت عن المؤتمر؟ يمكننا القول إن أهم نتائج المؤتمر فشل المؤتمرين في التوصل إلى اتفاق بشأن خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 45٪ بحلول عام 2030 - وهو الهدف المطلوب لوقف الظواهر المناخية المتطرفة.

  الاتفاقية الصادرة عن المؤتمر "تطلب" برفق من مختلف الدول إجراء التعديلات اللازمة في التزاماتها لخفض الانبعاثات، وذلك دون أي إلزام.

وأكبر فشل للمؤتمر؛ الالتزامات أو التعهدات العالمية بخفض الانبعاثات بنسب لا تفي بالهدف المطلوب للحد من الاحترار العالمي (بمقدار لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية).

فيما "أشاد" الكثيرون بحقيقة أن هذه هي المرة الأولى، منذ 26 سنة التي تُعقد فيها مؤتمرات الأمم المتحدة للمناخ (وتحديدًا منذ مؤتمر المناخ الأول في ألمانيا عام 1995) - هذه هي المرة الأولى التي يُشار فيها مباشرة وصراحةً إلى الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز).

لكن يقول العلماء إنه حتى هذه الإشارة إلى الوقود الأحفوري بعيدة كل البعد عن أن تمنع زيادة الاحترار الدراماتيكي بأكثر من 1.5 درجة مئوية، بالمقارنة مع فترة ما قبل الثورة الصناعية.

تنص الاتفاقية على أنه يجب على الدول تسريع "وقف إنتاج الطاقة التي تعمل بالفحم، وأيضًا وقف الدعم الحكومي غير الفعال للوقود الأحفوري". إضافة تعبير "غير الفعال"، عبارة عن تسوية لصالح الدول الصناعية الكبرى، للسماح لها، وبالتالي لغيرها، مواصلة دعم الوقود الأحفوري؛ علمًا أن صناعة الوقود الأحفوري تتمتع بدعم هائل يبلغ حوالي

11 مليون دولار في الدقيقة.

وبحسب تحليل أجراه أخيرًا صندوق النقد الدولي

IMF

في السنة الماضية حُوّل نحو 6 تريليون دولار من الدعم لإنتاج الطاقة من الفحم والنفط والغاز.

إحدى القضايا الرئيسة التي لم يتوصلوا إلى اتفاق بشأنها هي مسألة التمويل. فالدول الغنية لم تتمكن حتى الآن من التوصل إلى اتفاق بشأن المبالغ النهائية التي ستحولها إلى الدول النامية (الفقيرة).

لقد تضمنت الاتفاقية اعترافًا بأن الدول الغنية لم تقدم (حتى اللحظة) للدول النامية 100 مليار دولار من المساعدات السنوية التي وعدت بتقديمها حتى عام 2020 (كما أُعلن عن ذلك في مؤتمر كوبنهاغن عام 2009).  

وعلاوة على ما سبق، هناك دعوة لمضاعفة التمويل بحلول عام 2025 لمساعدة البلدان النامية على التكيف مع آثار أزمة المناخ، ويشكل هذا البند في الواقع إقرارًا بأن الدول الصناعية المتقدمة أصبحت غنية وراكمت ثرواتها الضخمة، بسبب استهلاكها الضخم للفحم والنفط والغاز، ونهبها للموارد الطبيعية في دول الجنوب الفقيرة، وبالتالي حرقها المتواصل والمتصاعد للوقود الأحفوري. لذا، يجب على تلك الدول تعويض الدول النامية عن الأضرار التي سببتها في الماضي وستسبّبها في المستقبل نتيجة لذلك.

مع أن اتفاقيات غلاسكو ليست ملزمة ولا تدعمها عقوبات، إلا أنها يمكن أن تؤثر على الاتفاقيات التجارية واللوائح والقوانين، وتسريع عمليات المساعدات الدولية للبلدان النامية.

ومع ذلك، تمكن المؤتمر من إحراز بعض التقدم الطفيف في بعض النقاط المهمة لتنفيذ التزامات دول العالم؛ إذ، لأول مرة، صِيغت القواعد لتنفيذ المادة 6 سيئة السمعة من اتفاقية باريس. فهذا البند الذي من المفترض أن ينظم ما يسمى "تجارة انبعاثات الكربون"، وبموجبه يجوز للدولة التي تحقق هدف التخفيض، أن تبيع كمية الكربون المتبقي في ميزانها الوطني إلى دولة أخرى.

 في صيغته الأصلية، تضمن هذا البند ثغرات سمحت لأطراف الصفقات التجارية بإجراء حسابات سخيفة. أما الآن، فقد صِيغت القواعد التي قد تتيح تحكما أفضل في هذه المسألة.

كما أُحرز بعض التقدم في تحديد آلية تعويض الدول النامية (من قبل الدول الغنية) عن الأضرار والخسائر في الأرواح والممتلكات، نتيجة آثار أزمة المناخ.

يضاف إلى ذلك بعض التفاهمات المهمة التي تم التوصل إليها بين الدول، خارج إطار صياغة الاتفاقيات الرسمية.  فمبادرة الحد من غاز الميثان التي تقودها الولايات المتحدة لاقت تجاوبا دوليًا، وكذلك موافقة مائة دولة على العمل لحماية الغابات المطيرة.

 والخطوة الأكثر إثارة للاهتمام، أن الولايات المتحدة الأميركية والصين، رغم خلافاتهما العميقة في العديد من القضايا الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية، أعلنتا تعاونهما في سياق الاستعداد لمواجهة الأزمة. إلا أن كل ذلك، لا يغير الانطباع العام بأن هدف الوصول إلى حالة مناخية آمنة ومستقرة، لا يزال بعيد المنال.

لماذا الأزمة المناخية حاليًا تعد خطرة وملحة؟

خطورة وملحاحية الأزمة المناخية تكمن في عمليات الاحتراق الهائلة التي اقترفها العنصر البشري منذ بداية الثورة الصناعية. فحاليًا ارتفعت حرارة الأرض بمقدار 1.1 درجة مئوية منذ بداية العصر الصناعي، علمًا أن ثلاثة أرباع مقدار الاحترار العالمي حدث منذ عام 1975 فقط.  كان أمام زعماء العالم في غلاسكو، فرصة أخيرة لبلورة اتفاقيات جديدة ملزمة لخفض الانبعاثات العالمية بمقدار 45% حتى عام 2030.

في الواقع، حتى لو تمكن السياسيون في المؤتمرات القادمة من التوصل إلى التزامات راديكالية، عندئذ سيكون الأمر  متأخرا جدًا. فحسب ما أفاده تقرير صادر عن الأمم المتحدة في أواخر أكتوبر الماضي، استند إلى ما يعرف بـ

 Nationally Determined Contributions)  NDC (

أي تعهد كل دولة بمدى الخفض الممكن لانبعاثاتها (والذي أعلنته في تموز الأخير الدول الموقعة على اتفاقية باريس) فقد توقع التقرير أن يرتفع الاحترار العالمي بمقدار 2.7 درجة مئوية حتى نهاية القرن الحالي، وذلك لأن دول العالم لم تتعهد بخفض كميات كافية من انبعاث غازات الدفيئة في نطاق حدودها الجغرافية، بل من المتوقع أن تزيد الانبعاثات بمقدار 16%.

فجوة كبيرة بين التعهدات والخطابات النظرية والواقع الفعلي

أوضح التقرير السنوي لوكالة الطاقة العالمية

)IEA World Energy Outlook(

أن تعهدات الدول الحالية لخفض انبعاثاتها لن تؤدي إلى تحقيق هدف الخفض المطلوب حتى عام 2030، ألا وهو 45%.

 وأكد التقرير بأن التعهدات الحالية للدول حتى هذه اللحظة تغطي أقل من 20% من خفض الانبعاثات المطلوب حتى عام 2030.  أي يجب على زعماء العالم التعهد بخفض النسبة المتبقية (أي 80%)؛ الأمر الذي لم يتحقق في مؤتمر غلاسكو.

 مرت 26 سنة منذ مؤتمر المناخ الأول

)COP1(

في برلين عام 1995، ولا تزال الحكومات في المؤتمرات السنوية ذاتها تناقش الحاجة الملحة لتقليص انبعاثات غازات الدفيئة، بهدف منع التغيرات المناخية والكوارث الإيكولوجية والإنسانية الناتجة عنها.  لكن، في كل تلك الفترة واصلت  دول العالم زيادة انبعاثاتها؛ إذ منذ عام 1995، انبعثت نحو نصف كمية غازات الدفيئة التي انبعثت منذ بداية الثورة الصناعية قبل نحو 250 سنة.

في الواقع، حل أزمة المناخ يبدو بسيطًا؛ إذ يجب إبقاء الوقود الأحفوري بأنواعه كافة في باطن الأرض. وبالتالي، فإن جميع التهديدات والتصريحات المنتفخة والوعود التي لا رصيد لها، والآليات التفصيلية التي نوقشت في مؤتمر غلاسكو، لن تفيد، ما لم تُتخذ تلك الخطوة البسيطة والبدهية. المفارقة أنه حتى عام 2030 من المتوقع إنتاج وقود أحفوري بمقدار 110% بالمقارنة مع تعهدات الدول في اتفاقية باريس عام 2015.

وبحسب بحث حديث نشرته دورية

Nature

فإنه كي تزيد الاحتمالية بأكثر من 50% لعدم ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية بأكثر من 1.5 درجة مئوية، يجب وقف استخراج واستخدام الفحم والنفط والغاز وقفًا شبه كامل.

صناعة التضليل وحرف الأنظار

المفارقة أن الدول التي تزعم بأنها تقود التغيير، مصممة على مواصلة الحفريات واستخراج الوقود الأحفوري. فالإدارة الأميركية أعلنت أخيرًا عن المزاد لمنح تصاريح الحفريات لاستخراج النفط والغاز في مياه ألاسكا وخليج المكسيك. كما أن بريطانيا متمسكة بقوة بما تسميه "تعظيم الانتعاش الاقتصادي" لقطاع التنقيب عن النفط والغاز.  ففي العام الماضي منحت الحكومة البريطانية 113 تصريحًا جديدًا للتنقيب عن الموارد النفطية في البحر، كما أنها تنوي مضاعفة كمية الوقود الأحفوري المستخرج أساسا في أراضيها.

بل إن "إسرائيل" التي تتبجح بكونها رائدة في مجال الطاقات النظيفة، تعد من بين مجموعة صغيرة من الدول (25 دولة فقط) ليس لديها خطة معتمدة للتعامل مع الأزمة المناخية، كما لا يوجد لديها قانون مناخ، ولم تعلن رسميًا عن حالة طوارئ مناخية ولا يوجد فيها ضريبة كربون معتمدة. 

يضاف إلى ذلك، أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للفرد الإسرائيلي تُعد من الأعلى عالميًا، إذ تبلغ نحو 11 طناً سنويا للفرد (صحيفة هآرتس، 20/9/2018)، بينما انبعاثات الفرد الفلسطيني لا تتجاوز 0.5 طن سنويا؛ أي أن متوسط انبعاثات الأول تعادل 22 ضعف انبعاثات الثاني؛ بل هي أكبر من معظم الدول الأوروبية حيث المواصلات العامة والحفاظ على الطاقة أكثر تطورًا من "إسرائيل".

 وعند مقارنة واقع انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن فلسطينييّ الضفة والقطاع بالانبعاثات العالمية أو الإسرائيلية، سنجدها هامشية؛ إذ أن نسبة الانبعاثات الفلسطينية تساوي 0.01% من إجمالي الانبعاثات العالمية (سلطة جودة البيئة، 2016. البلاغ الوطني الأول المقدم إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ)، وهذه النسبة لا تتجاوز انبعاثات مصنع عسكري إسرائيلي ضخم.

إذن، الخطابات والتعهدات و"التبجحات" التي أُسمعت في غلاسكو، لا تعدو كونها ذرًا للرماد في العيون، مقارنة  بالحقائق الصلبة المرتبطة بمناجم الفحم وحقول الغاز والنفط الجديدة. والمقياس الحقيقي للتعامل مع الأزمة المناخية هو مدى التعدين والحفريات الخاصة بالوقود الأحفوري، وكل الخطابات والتفاصيل الأخرى ليست سوى ملهاة وحرف للأنظار عن جوهر الأزمة!

الحقيقة أن عمليات التضليل وحرف الأنظار تعد قطاعًا تجاريًا كبيرًا؛ إذ أن شركات النفط أنفقت ملايين كثيرة من الدولارات على الدعايات والأفلام و"الأبحاث" المفبركة، لإقناع العالم بأنها أصبحت "خضراء".

 التقرير الأخير الخاص بهذه المزاعم، الصادر عن وكالة الطاقة الدولية، كشف أن في عام 2020 بلغت استثمارات قطاع صناعات النفط والغاز في الطاقات النظيفة 1% فقط من إجمالي الاستثمارات في هذا المجال. 

ومنذ التوقيع على اتفاق باريس عام 2015، أنفق أكبر 60 بنكا في العالم 3.8 تريليون دولار لصالح الشركات المنتجة للوقود الأحفوري بمختلف أنواعه.

كما أعلن صندوق النقد الدولي بأنه في سنة 2020، بلغ دعم الحكومات في العالم لصناعات الوقود الأحفوري أكثر من 450 مليار دولار.

 وأكد الصندوق بأن التكاليف الأخرى التي تفرضها علينا تلك الصناعات، وتحديدًا التلوث والدمار والفوضى المناخية، بلغت 5.5 تريليون دولار.

 يمكننا القول إن هذه الأرقام غير ذات معنى، لأنها لا تعطينا توصيفا لعدد الناس الذين فقدوا حياتهم بسبب ما خلّفته تلك الصناعات من تلوث وتدمير إيكولوجي، فضلًا عن التدمير المنهجي للأنظمة الإيكولوجية والبيئية.  الإحصاءات العالمية تفيد بأن حالة وفاة واحدة من بين كل خمس وفيات سببها التلوث الناتج عن الوقود الأحفوري.

المؤسسات المالية العامة تواصل عمليات التمويل الضخمة لإنتاج الفحم والنفط والغاز؛ إذ في السنوات الثلاث الأخيرة  بلغت استثمارات دول

G20

والبنوك متعددة الجنسيات في المشاريع المعتمدة على الوقود الأحفوري، مرتين ونصف أكثر من المبالغ التي أنفقتها لتطوير الطاقات المتجددة.

 وتفيد الإحصاءات العالمية بأن 93% من محطات الطاقة العاملة على الفحم الحجري محمية من قوى السوق وتقلباتها، بواسطة عقود حكومية خاصة وتعريفات غير خاضعة للمنافسة.

إذن، العلاقة بين العديد من الحكومات وصناعة الوقود الأحفوري هي علاقة شريرة، غبية ومدمرة.  فمن أجل مراكمة الأرباح الخيالية الناتجة عن هذه الصناعة الملوثة- والتي تتركز بأيدي أقلية هامشية- تقربنا تلك الحكومات أكثر فأكثر من الكارثة.

إنه لأمر جميل جدًا أن يدّعي زعماء العالم بأن هدفهم تصفير الانبعاثات؛ لكن ما لم يكن لديهم خطط لتحقيق ذلك، وما دامت أهدافهم حتى عام 2030 منخفضة، فعندئذ، لن تعدو أهدافهم المعلنة أن تكون تشدقًا كلاميًا. 

إنجازات لا ترتقي إلى مستوى الكم الهائل من الخطابات الكلامية والأبحاث المناخية

اجتمعت دول العالم في غلاسكو في محاولة لمنع زيادة الاحترار بأكثر من 1.5 إلى 2 درجة مئوية، إلا أن الاتفاقيات المعلنة لا تحتوي على قرارات من شأنها ضمان هذا السيناريو.

 في الوضع الحالي، من المرجح جدًا أن يرتفع الاحترار العالمي بنحو 2.5 درجة مئوية.

حاليا، التعهدات الهزيلة التي قدمت في مؤتمر غلاسكو لتقليص الانبعاثات على المدى القصير، جعلت الالتزامات طويلة الأجل لتصفير جميع الانبعاثات بحلول منتصف القرن الحالي أمرًا مستحيلًا؛ وذلك حسب تقرير للأمم المتحدة صدر في 9/ 11/ 2021، أي قبل اختتام مؤتمر غلاسكو بثلاثة أيام.

 وفقًا لهذا التقرير الذي فحص الإجراءات الفورية التي تتخذها البلدان، فمن المتوقع أن ترتفع درجة حرارة الأرض بمقدار 2.5 درجة على الأقل، وهو ما حذر العلماء من أنه سيكون كارثيا.

من أجل تحقيق الهدف الأصلي لمؤتمر غلاسكو (أي منع ارتفاع درجة حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية)، يجب على دول العالم أن تعدل التزاماتها قصيرة المدى وتنفذها، لكن وثيقة غلاسكو لا تضمن ذلك. وبدلاً من هذا، دعت الوثيقة الأطراف إلى إعادة النظر في أهدافهم قصيرة المدى وتحسينها حتى نهاية العام الحالي.

 ما تم في الواقع، حسب وثيقة المؤتمر، هو مجرد تسريع الآلية التي تطلب من الدول تحسين التزاماتها سنويًا بدلاً من كل خمس سنوات.

ميوعة ورخاوة وعدم الحسم في القضايا الجوهرية  

أحد أسباب "ميوعة" مؤتمر غلاسكو، كما المؤتمرات السابقة التي تلت مؤتمر باريس، يكمن في الثغرة البنيوية لاتفاق باريس (2015) والمتمثلة في كونه تطوعيًا في جوهره؛ إذ أن الإلزام الوحيد للدول الموقعة عليه هو مجرد تقديمها التقارير.

المعضلة البنيوية الكامنة في اتفاقية باريس أنها تمنح الدول الغربية الرأسمالية مساحة كبيرة للمناورة، بحيث تستطيع بها ملاءمة أهداف انبعاثاتها لاحتياجاتها ومصالحها الخاصة؛ علمًا أن نص الاتفاقية لم يحمّل الدول الصناعية الغربية المسئولية الأساسية في الانبعاثات، وبالتالي لم يلزمها بخفض انبعاثاتها بنسب كمية كبيرة واضحة تنسجم مع الحقائق العلمية. 

الاتفاق عام وفضفاض بدليل أنه يفرض على جميع دول العالم المساهمة في الجهود المبذولة للحد من الآثار البيئية لبلدانها والناتجة عن أزمة المناخ؛ في حين أن الدول الصناعية المتقدمة كانت هي الملزمة فقط بذلك، قبل اتفاق باريس. 

اللافت أن أهداف خفض الانبعاثات لا تشير إلى التزام الدول أو إلزامها.  فعلى سبيل المثال، البلدان النامية قد تربط التزامها بخفض الانبعاثات بحصولها على التمويل من الدول الغنية.

"المخربون" الحقيقيون لأي تغيير حقيقي

الجهات التي تسبّبت بالأزمة المناخية، وبخاصة الدول الرائدة في معدلات الانبعاثات، وشركات النفط والغاز، تزعم بأن الحلول التكنولوجية التي يمكن التوصل إليها في المستقبل، قد تحل جزءًا كبيرًا من المشكلة؛ مثل عملية "حجب أشعة الشمس" أو "إزالة الكربون من الغلاف الجوي".  لكن مثل هذه الحلول غير قائمة حاليًا، وحتى لو وجدت في المستقبل، فمن الواضح كم سيكون الثمن البيئي لمثل هذه التكنولوجيات المزعومة.

في جميع مؤتمرات المناخ السنوية السابقة، وتحديدًا من باريس حتى غلاسكو، كانت هناك محاولات عديدة للنهوض بعملية تنفيذ اتفاقية باريس، إلا أنها كلها باءت بالفشل. المصالح السياسية والاقتصادية الإمبريالية أثبتت مرة أخرى أنها قوية للغاية، بل متغولة.

خلاصة القول، فشل المشاركون في مؤتمر غلاسكو باتخاذ قرار نهائي بشأن الآلية المالية التي تحكم تجارة الكربون أو المساعدات المالية للبلدان النامية للتعامل مع الأزمة.  

كما أن القرار الذي يدعو الدول إلى تقديم التزامات أكثر طموحًا لخفض انبعاثاتها، يفتقر إلى وسائل ضغط دولية؛ فهو مجرد خطاب كلامي آخر يناشد الدول بالتحرك لمواجهة الأزمة التي تهدد العالم.

تثير هذه الاستنتاجات القاتمة مسألة ما إذا كان هناك أي جدوى في عقد مؤتمرات المناخ.  بعض الخبراء والعلماء الذين حضروا المؤتمر قالوا بوضوح إن تكرار مثل هذه المؤتمرات لا معنى له، وذلك لأن سلطة الشركات الاحتكارية العالمية الضخمة تمنع إحداث أي تغيير حقيقي. 

كما ويا للأسف، لم تساهم مؤتمرات المناخ في بلورة تعهد غربي بكسر احتكار المعرفة العلمية والتقنية الخاصة بإنتاج السلع البيئية، وبالتالي التعهد الملزم قانونيا بتقديم المعلومات عن التكنولوجيا النظيفة؛ وبالتالي تحقيق الحد الأدنى من العدالة والمساواة في حرية الوصول إلى الطاقات المتجددة، من خلال مشاريع مجدية إيكولوجيًا ومستدامة اقتصاديًا وبيئيًا على الأرض.

الشروط الحتمية لنجاح مواجهة الأزمة المناخية

تميزت القمة الأخيرة في غلاسكو

COP26(

كما قمم المناخ السابقة، في إنتاج كم كبير من الثرثرة والخداع من قبل العديد من السياسيين، بينما تتواصل عمليات "التنمية" المدمرة للبيئة والمناخ، وبينما يواصل الجناة الرئيسيون المتسببون في أزمة المناخ، الجلوس على عروشهم العاجية في شركاتهم الاحتكارية الملوثة ومصارفهم وحكوماتهم، ويواصلون استنزاف الموارد الطبيعية الأساسية وتلويث الهواء والمياه والبحار وسطح الأرض وباطنها وغلافها الجوي. لذا، فإن الإعلانات والبيانات والاتفاقات الخالية من أي إجراءات فورية عاجلة وملزمة، لن تؤدي إلى وقف تدهور المناخ.

إن استمرار الأنموذج التنموي الرأسمالي الحالي ينذر بتفاقم الأزمة الإيكولوجية وزيادة غازات الدفيئة في الغلاف الجوي وارتفاع غير مسبوق لحرارة الكرة الأرضية؛ ما سيترتب على ذلك من انقلاب مناخي سريع وغير مسبوق ستتجسد نتائجه المباشرة في مزيد من الموجات الحرارية والجفاف وندرة المياه ومزيد من الفيضانات وأحداث التسونامي البحرية.

من الواضح أن الأزمة المناخية والإيكولوجية، كشأن سائر الأزمات، لن يدفع ثمنها الرأسماليون وطبقة الأغنياء، ولن تجد حلها على يد رؤساء الحكومات وأصحاب الشركات الاحتكارية وخبراء مراكز الدراسات الدولية، بل سيدفع ثمنها بالدرجة الأولى شعوب الأرض المقهورة والمعذبة. 

وبطبيعة الحال، لن يساعد في تخفيف آثار هذه الأزمة مشاركة المجتمع المدني في المساحات "الزرقاء" و"الخضراء" للمؤتمرات المناخية الدولية.

  العدالة المناخية والتنمية المستدامة، كما العدالة الاجتماعية وسيادة الديمقراطية، لن تتحققا على يد الاحتكارات الملوثة والمدمرة للبيئة والمناخ، ولن تتحققا أيضًا على يد الحكومات والمؤسسات الراعية لمصالح الرأسمالية، بل تتحققا بمعركة تخوضها الشعوب المتضررة ذاتها.  إن تغيير النظام الاقتصادي السائد الذي يمجد النمط الحياتي الاستهلاكي هو المقدمة الحتمية لمواجهة جذرية ونوعية لأزمة المناخ العالمية. 

خلاصة القول، لا خيار أمام الشرائح الشعبية وحركاتها الاجتماعية وقواها الديمقراطية المكافحة، سوى الاتحاد في جبهة موحدة لإنهاء هيمنة اقتصاد السوق، والحد من تسلط وديكتاتورية المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، واستبدال السياسات التنموية القائمة على الزيادة المتواصلة لمعدلات النمو الذي يؤدي إلى تعميق استغلال العمال والمزارعين واستنزاف الطبيعة- استبدال ذلك بنظام اقتصادي جديد وعادل عماده تلبية الاحتياجات الأساسية للناس واحترام التوازنات الطبيعية والأنظمة الإيكولوجية، وتأمين شروط الحياة الكريمة المستدامة.

المفارقة أن ما يزيد على 80% من الجوعى في العالم يعيشون تحديدًا في المناطق الأكثر عرضة للكوارث الطبيعية وللتدهور البيئي؛ ما يؤكد عمق العلاقة بين المناطق التي تعاني التغيرات المناخية المتطرفة والفقر والجوع.

لذا، لا بد أيضًا من إحداث تغييرات جذرية عميقة في أنماط الإنتاج الزراعي وفي الأنظمة الغذائية، بدعم حقيقي لمئات ملايين الفلاحين أصحاب الحيازات الصغيرة التي تنتج نحو 80% من الغذاء العالمي، وحمايتهم اجتماعيًا لتمكينهم من مواجهة المخاطر المناخية، وتقليص حساسيتهم لانعدام الاستقرار في أسعار الغذاء، ولزيادة فرص عمل مزارعي الأرياف الذين تشردوا أو سيتشردون بسبب الاختلالات والكوارث المناخية المدمرة للأراضي الزراعية، والغابات والبحار التي ترتبط بها القطاعات الزراعية وسيادة الشعوب على غذائها. 

وما لم تطبق طرق إيكولوجية مستدامة لإدارة التربة الزراعية والمياه والصيد والتشجير، فلا يمكن القضاء على الفقر في العالم.

 وتحصيلٌ حاصل؛ ضرورة العمل للقضاء على الزراعات الكيميائية والنيتروجينية التي تساهم إلى حد كبير في انبعاث غازات الدفيئة المسببة للاحترار العالمي؛ الأمر الذي يتطلب ممارسة التنويع المحصولي الكبير والزراعات المختلطة، ودمج الزراعة بمحيطها الطبيعي بالزراعات الإيكولوجية التي تسهم إلى حد كبير في تكيف المزارعين الصغار مع الاحترار العالمي.

 كما يتطلب الأمر إلغاء السياسات القائمة في بعض الدول، والمتمثلة في دعم الأنماط الزراعية المدمرة للتوازنات الطبيعية والمناخية، مثل دعم الأسمدة والمبيدات الكيميائية. 

المثير، أنه بمبلغ مقداره 161 مليار دولار- أي جزء بسيط من المبالغ التي تنفقها الحكومات على دعمها لإنتاج الوقود الأحفوري- يمكن للأخيرة أن تشتري وتغلق جميع محطات الطاقة التي تعمل بالفحم في العالم.

  ولو فعلت ذلك، في سياق عملية الانتقال من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة، لكانت أنتجت أماكن عمل

إضافية، فوفقًا لبحث أجرته أخيرًا

  Oil Change International

  تستطيع بريطانيا أن تخلق ثلاث وظائف في شركات الطاقة النظيفة، بدلاً من كل وظيفة مفقودة في صناعة النفط والغاز.

حاليا، يوجد في العالم العديد من التجمعات والحراكات التي تحاول الضغط لتغيير الواقع.  فالحملة المتمثلة بصياغة اتفاقية حظر انتشار الوقود الأحفوري، وقَّع عليها آلاف العلماء وأكثر من مائة فائز بجائزة نوبل.

كما أن منظمة

Europe Beyond Coal

 تضم تحت مظلتها حركات من مختلف الأنحاء الأوروبية، بهدف وقف افتتاح مناجم جديدة وإغلاق تلك القائمة. واللافت أن حكومتي الدنمارك وكوستاريكا أنشأتا تحالفا اسمه

Beyond Oil and Gas

  وأبواب هذا التحالف مشرعة لانضمام المزيد من الحكومات.

الحقيقة أن بحوزتنا حاليًا التكنولوجيا اللازمة لاستبدال الوقود الأحفوري. مبالغ مالية هائلة تُهدر حاليًا على تدمير الحياة على الأرض.

 لو أرادت الحكومات، فإن عملية التحول يمكن أن تتم في غضون أشهر. الشيء الوحيد الذي يمنع هذا التحول هو قوة الصناعات الملوثة القديمة والأشخاص المنتفعين من تلك الصناعات، والذين يراكمون ثروات مالية خيالية على حساب وجود ومستقبل البشرية.

 هذا الواقع بالضبط هو ما يجب القضاء عليه، أما التلويح بالأيدي، وحرف الأنظار بالكلمات الصاخبة التي سمعناها في مؤتمر غلاسكو، فيهدف إلى شيء واحد "إحباط عملية التحول الجذرية".

البث المباشر