رغوة سوداء.. رحلة مهاجر أسود إلى (إسرائيل)

رشا فرحات

لم يكن اسمه "داويت"، ولم يكن يهوديا، وإنما غير حياته واسمه لأجل أن ينجو من حياة البؤس فوجد نفسه أمام جدار بؤس آخر ينقسم بين عنصريتين .

عبر 28 فصلا يحكي الكاتب الاريتيري حجي جابر قصة المهاجر الارتيري "داوود" ابن غير معروف الأصل ينتقل من أريتيريا هاربا إلى أثيوبيا ثم لاجئا من يهود الفلاشا، ويصل إلى مخيم أندغابونا للاجئين في إسرائيل. منتحلا شخصية واسما وديانة جديدة تمكنه من الهجرة إلى حيث الأرض التي قالوا عنها أنها أرض الميعاد، هاربا

من الموت والحروب والتجنيد الإجباري والتعذيب في وطنه.

ثم يبدأ رحلة احتقار في تل أبيب والقدس من الجهتين، الفلسطيني الذي يرى فيه يهوديا محتلا ، والاحتلال الذي يعامله كأسود البشرة منذ اللحظة الأولى التي ينزل فيها من الحافلة ويقوم المسؤولون عن مخيم المستوطنين برشه ورفاقه السود بأدوية معقمة، ما يجعل المشهد مهينا مذلا من اللحظة الأولى.

"على المدخل كانت الطواقم الطبية متأهبة بانتظار القادمين، الجميع يرتدون سترات بيضاء طويلة، تنتهي أكمامها بقفازات من اللون نفسه، فيما تغطي كمامات خضراء معظم الوجه. أنزل الأطفال أولاً واقتيدوا إلى الداخل، قبل أن يطلب من البقية أن يصطفوا في طابور طويل. مالت الطواقم جانباً، وتقدّم شخص يعتمر خوذة بيضاء تغطي وجهه إلا من ثقوب صغيرة عند العينين والأنف، يحمل حقيبة ظهر بلاستيكية زرقاء تنتهي بخرطوم أسود. كان يشير بيده، فيما الأخرى تمسك بالخرطوم. تقدم الواقف في أول الطابور حتى أصبح في مواجهة الرجل ذي الخوذة البيضاء الذي طلب منه أن يغمض عينيه، وأن يرفع يديه عالياً، قبل أن يغرقه بمادة سائلة، ثم يدعوه للعبور".

يحكي لنا البطل كأريتيري في جزء كبير من الرواية عن تلك المعاناة التي يعيشها شباب وطنه، الفقر والهجرة والحروب والتي تكون هي السبب الأول في رغبته بالهرب إلى أي كان، باحثا عن الخلاص فقط.

الكاتب الأريتيري حجي جابر يتحدث في مقابلة له عن السبب الذي جعله يكتب عن هذه القضية بالذات، وهو الذي طالما قال أن الاريتيري هو قضيتي،  قال:"

حين حصلتْ حادثة موت إرتريّ في بئر السبع، أثار انتباهي كيفيّة تفاعل الناس معها، ليس الموت في حدّ ذاته، فنحن الإرتريّين نموت في أماكن كثيرة في هذا العالم وبأشكال عديدة، لكنّ المختلف في هذا الموت أنّ حكايته لم تنتهِ بمجرّد موت الشخص، بل ربّما بدأتْ لحظتها، على الرغم من أن لا أحد يعرفه أو يعرف عن حياته شيئًا، فكان من اللافت أنّ تعليقات الناس كانت ساخرة أو ساخطة، من قبيل "يِسْتاهَل، شو وَدّاه لفلسطين"، لكنّ الإرتريّين لم يفعلوا لعلمهم بالحال. وقتها كتبتُ مقالًا بعنوان: «ماذا يفعل الإرتريّ في إسرائيل؟». هذا شخص هارب من الموت لكنّه مات في المكان الّذي قصده من أجل النجاة. ظننتُ أنّ الموضوع انتهى، لكنّه بقي معي، وكان الأصعب هو الّذي حدث بعد موته، كما ذكرتُ.

ولعل الجزء الثاني من الرواية هو الأجمل والأكثر دقة ووضوحا في السرد، ربما لأن الكاتب زار القدس ليكون قريبا جدا من المشهد، فخرجت الصورة بشكل مبدع حقيقة، حتى أنك تتعرف على زوايا في المدينة المقدسة وكأنك تراها حقيقة.

البطل حينما يدخل إلى القدس يعاني فصول عنصرية أخرى، مرة لأنه أسود، وأخرى لأنه يهودي ، ويسحره جمال المدينة، ويتنقل الكاتب بين كنيسة القيامة وقبة الصخرة تنقلا ووصفا يخطف الألباب، وقد وصفه الكاتب نفسه في رحلته إليها لأجل الكتابة:" في المقابل، كنتُ أنا الكاتب مذهولاً بالقدس، بالتاريخ يضوع من كل شبر فيها، أتأمل الناس والأشجار وحجارة الطريق، وأشعر بانتماء لكل ما أمرّ به للمرة الأولى"

بطل متعثر بحظ عاثر؛ يبحث عن رغوة سوداء ليطفوا على سطح الإنسانية؛ حتى يقتل في النهاية دون أن يتمكن من ذلك !

هذه رواية لا تهمها الأمكنة ولا اللون ولا الديانة بقدر ما يهمها الإنسان، وخاصة الإريتيري الذي حمله حجي جابر عن الإنسان الأسود الذي يعامل بعنصرية في أي بقعة من الأرض لأنه أسود، بصرف النظر عن ديانته.

الرواية عرضت العنصرية داخل العنصرية، العنصرية التي يواجهها الأسود في بلاد بنيت على العنصرية وهي"إسرائيل" التي قرر الهجرة إليها لاجئا إلى تزوير أوراق لعلها تعطيه فرصة لبداية حياة جديدة هربا من الفقر والبؤس.


رغوة سوداء_19905_Foulabook.com_ (1).pdf

 

البث المباشر