منذ بداية العملية العسكرية البرية في قطاع غزة في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عمدت مؤسسات الاحتلال الأمنية والسياسية والعسكرية التصريح بأن واحدة من أهداف الحرب على قطاع غزة هي القضاء على كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس.
وخلال مسارات المعركة البرية، ظل الاحتلال الإسرائيلي يروج عبر جيشه أو حتى رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو عن استهداف كتائب تابعة للقسام في محاور القتال المختلفة في القطاع فيما كانت المقاومة تلتزم الصمت أو تنفي تلك الادعاءات، خاصةً بالنظر إلى الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة بأن 70% من الشهداء هم من النساء والأطفال بإجمالي 27 ألف شهيد من أصل قرابة 40 ألف شهيد.
يمتلك القسام وفقًا لحديث إسرائيلي وفلسطيني 24 كتيبة موزعة على مختلف مناطق القسام، فعلى سبيل المثال يوجد في مدينة رفح 4 كتائب وفي خان يونس 5 كتائب و8 كتائب في مدينة غزة وكتبتين في الوسطى و5 كتائب شمالي القطاع.
في الوقت ذاته ومع مرور قرابة 10 أشهر من الإبادة الجماعية في القطاع لا تزال المقاومة الفلسطينية قادرة على قصف مستوطنات غلاف غزة بالصواريخ وقذائف الهاون بالإضافة لاستهداف المدن البعيدة مثل تل أبيب.
تعكس تطورات المعارك البرية وهم الادعاء الإسرائيلي بالقضاء على كتائب حماس الـ 24 في غزة، والمحسوبة على الذراع العسكرية لها، لا سيما مع تجدد القتال في أغلب المحاور في الفترة الأخيرة بصورة لافتة.
وفي خطابه الأخير يوم السابع من يوليو/تموز 2024 تحدث المتحدث باسم كتائب القسام أبو عبيدة، في كلمة متلفزة بثتها شبكة الجزيرة الإخبارية، إن “القدرات البشرية لكتائب القسام بخير كبير”، وأعلن أنه تم تجنيد آلاف المقاتلين الجدد خلال الحرب التي أكملت شهرها التاسع مع الإشارة لأن 24 كتيبة تقاتل مع باقي فصائل المقاومة الأخرى قوات الاحتلال.
وهم يفضحه الميدان: المقاومة باقية
في مارس/آذار الماضي 2024 زعمت منظومة الاحتلال الأمنية والعسكرية بأنها قضت على 20 كتيبة للقسام من أصل 24 كتيبة قبيل بدأ العملية العسكرية في رفح، ثم عادت وقالت إنها قضت على 18 كتيبة مع بقاء كتيبتين في دير البلح والنصيرات.
ومع بداية العملية العسكرية في رفح في 7 مايو/أيار الماضي شرع الاحتلال في تنفيذ عملية عسكرية في حي الزيتون الذي سبق وأن أعلن الاحتلال الإسرائيلي القضاء على كتيبة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية فيها.
وكان مبرر العملية الذي ساقه الناطق باسم جيش الاحتلال دانيال هغاري منع القسام من إعادة بناء قوتها في تلك المنطقة، غير أن المشهد كان مختلفاً مع المعارك الضارية التي خاضتها المقاومة في تلك المنطقة.
وعكست المعارك التي خاضتها المقاومة في غزة في هذه الفترة بحي الزيتون تطورًا تكتيكيًا جديدًا في الأداء العملياتي لها، على الصعيد الميداني من ناحية ترتيب الصفوف والتكيف مع الواقع الجديد في ظل الدمار.
ونجحت القسام والمقاومة من جديد في تكبيد الاحتلال خسائر فادحة في صفوف القوات الإسرائيلية التي سرعان ما انسحبت من جديد مخلفة دماراً على المستوى الإنشائي والبنية التحتية ومنازل الفلسطينيين.
وفي ذات الوقت الذي كانت تتجه الأنظار فيه نحو معركة رفح فإذا بقادة الاحتلال يحوّلون الأنظار إلى مناطق الشمال، بعد أن حركوا جزءًا من الحشد العسكري الإسرائيلي من جنوب القطاع إلى شماله بسرعة كبيرة ومفاجِئة، وإذا بجيش الاحتلال يعلن عن عمليّة عسكرية جديدة في مِنطقة جباليا، ومخيّم جباليا، في الشّمال الشرقيّ من القطاع.
وكان مبرر هذه العملية التي انتهت في 31 مايو/أيار 2024، ظهور مجاميع مسلّحة تابعة لحماس، تعيد تموضعها، وتشكيل قوتها وإدارتها من جديد في هذه المناطق، علمًا بأنّ حماس وفصائل المقاومة قد عادت إلى جميع المناطق في الشمال، والوسط، والجنوب في خان يونس، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي الذي فشل في البقاء في هذه المناطق؛ لأسباب تتعلق بعدم القدرة على حمايتها، وارتفاع فاتورة الخسائر، وتعدّد جبهات المواجهة، ناهيك عن الانقسامات السياسية والخلافات الداخلية، ولم تتبقَّ له قوّات إلا الفرقة (99) في محور نتساريم بلواءَين، هما: اللواء المدرّع (679)، ويطلق عليه لواء يفتاح، وكذلك اللواء الثاني احتياط (مشاة)، الذي يطلق عليه لواء كرميلي.
وبالتالي فإن من يراقب مسرح العمليات، يجد أن الذرائع التي سوّقها قادة الاحتلال لعودة القتال في منطقة جباليا، ومخيم جباليا، وحي الزيتون، هي أسباب واهية وغير مقنعة، لأنّ من يطلق الصواريخ لن يبقى واقفًا في مكانه ينتظر جيش الاحتلال الإسرائيلي ليقوم بعملية عسكرية لقتله.
كما أنّ ظهور المقاومين في هذه المناطق، هو سبب غير مقنع، ولا يبرّر هذه العملية العسكرية على الأقلّ في هذا الوقت الحرج، وهذه الأسباب غير مقنعة؛ لأننا نتكلم عن حرب العصابات التي لا يوجد فيها موضع ثابت لفصائل المقاومة، وإنما يتنقلون حسب تطور الموقف، وإمكانية التنقل، وتوفر الوسائل اللازمة للحماية والمواجهة.
أعقب هاتين العمليتين ما جرى في حي الشجاعية ومنطقة الشفاء وتل الهوا بمدينة غزة حيث دخل الاحتلال نحو أسبوعين في الشجاعية قبل أن ينسحب منها بعد عدد كبير من القتلى والجرحى وثقته التسجيلات الصادرة عن المقاومة.
أما عملية تل الهوا فقد كانت خاطفة وسريعة ولم تستغرق أكثر من يومين ثم عاود الاحتلال للانسحاب من جديد تحت الضربات القوية التي وجهتها المقاومة لجنود الاحتلال المتوغلين في هذه المنطقة.
وفي كل مرة كان مبرر الاحتلال الذي يسوقه هو عودة المقاتلين المحسوبين على القسام وحماس لهذه المنطقة وهو ما يحمل دليل كذب وإدانة وفشل بالنسبة له ويعكس فشل القضاء على المقاومة في هذه المناطق.
دلالات وانعكاسات ميدانية
تعكس العمليات المتكررة في هذه المناطق صدق الخطاب الذي تتحدث به المقاومة الفلسطينية ما يمنحها مصداقية أعلى على المستوى الميداني والعملياتي والإعلامي أمام جمهورها وأمام جمهور المستوطنين الإسرائيليين.
وبمحاذاة هذا الأمر، تحقق المقاومة الفلسطينية نجاحات عملياتية من خلال تكبيد الاحتلال خسائر بشرية في الأرواح حيث اقترب إجمالي قتلى العملية البرية لنحو 700 جندي وضابط، إلى جانب أكثر من 4000 مصاب.
ويشكل إعلان القسام تجنيد الآلاف من العناصر البشرية قدرة المقاومة على المناورة والتكيف مع الظروف وترتيب الصفوف بالرغم من الاستهدافات العسكرية التي تطول عناصرها في العمليات البرية والقصف.
وإلى جانب هذ الأمر تظهر المقاومة الفلسطينية قدرة على إعادة التصنيع والاستفادة من الصواريخ التي ألقاها الاحتلال ولم تنفجر حيث يتم إعادة هندستها من قبل المهندسين واستخدامها في الكمائن والتفخيخ.
وبالتزامن مع هذا، تحولت المقاومة الفلسطينية بعد 10 أشهر إلى أسلوب “حرب العصابات” والاعتماد على الزمر القتالية التي تتكون ما بين 3 – 5 أفراد من التخصصات القتالية بين الهندسة والقنص والدروع.
ويبدو لجوء المقاومة الفلسطينية إلى هذا الأسلوب الذي سبق وأن استخدم في حرب “فيتنام” يعود لرغبتها في تقليل الخسائر في صفوفها وتعزيز الكفاءات الميدانية والعملياتية وإفساد رغبة الاحتلال في قتل أكبر عدد ممكن من المقاومين.
وبالتالي فإن الحديث عن القضاء على كتائب المقاومة بعد مرور 10 أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزة يمكن وصفه بـ “الوهم” بالمقارنة مع الأداء العملياتي المرتفع للمقاومة في مختلف محاور القتال في غزة.
نقلا عن موقع نون بوست