مؤمن بسيسو
قيل كثيرا إن لعبة السياسة وتوازنات المصالح سوف تحجران على تركيا التوغل بعيدا في مسار معاقبة (إسرائيل) إثر جريمتها المنكرة بحق أسطول الحرية العام الماضي.
اليوم.. تثبت تركيا أن حدود السياسة والمصالح، مهما كانت، تتسع لمواقف وإجراءات قد تبدو في نظر البعض من المحرمات في العصر الحديث، وأن الكرامة الوطنية والعزة القومية التركية تشكلان مبدأ سامقا غير قابل للنقض والتبديل وقيمة علوية غير خاضعة للمساومة والابتزاز.
للوهلة الأولى قد يبدو الإجراء التركي بطرد السفير الإسرائيلي وتعليق المعاهدات العسكرية مع الاحتلال نغمة نشاز في الفضاء السياسي الدولي الذي يسبح بحمد أميركا و(إسرائيل)، ولا يجرؤ على معاندة أو تحدي السياسات والأفكار التي ترسمانها للمنطقة والعالم.
لكن تركيا العزة والكرامة والإباء فعلتها بكل جدارة واقتدار، ووجهت ضربات قاسية للعنجهية الإسرائيلية التي ملأت آفاق الأرض غرورا واستكبارا، وأوقعت (إسرائيل) في أزمة دبلوماسية خانقة لا تدري منها محرجا.
الموقف الإسرائيلي يتحرك اليوم على أرضية أشبه ما تكون بالرمال المتحركة، وفي كل الأحوال فإن عليه أن يغوص فيها ويجتاز مخاطرها ويتجرع الخسارة المحققة الكامنة فيها بلا أي هوامش أو مزيد خيارات.
في إطار مواجهتها للموقف التركي الصلب فإن (إسرائيل) خاسرة على كلا الحالتين وتواجه خيارين أحلاهما مرّ.
إن اعتذرت فقد أعطت الدنية ورضخت لقوة وصلابة الموقف التركي وعرّضت صورتها العنجهية للاهتزاز، وكبرياءها المنتفخ للسقوط، دوليا، وإن أحجمت فقد خسرت علاقتها مع تركيا سياسيا وعسكريا التي تعني لها الشيء الكثير.
السؤال الأهم: ما الدرس الأكبر الذي يمكن الاستفادة منه فلسطينيا وعربيا وإسلاميا على إيقاع الخطوات والإجراءات التركية التي غرّدت معزوفتها خارج المجال الدولي المعروف بحساباته السياسية التي تجامل (إسرائيل) على حساب حقوق وكرامة الأمم والشعوب المقهورة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني والدول العربية والإسلامية؟
تركيا تبدو اليوم وحيدة ونسيج ذاتها في مواجهة (إسرائيل) على الساحة الإقليمية والدولية، لكنها تتحرك بجدّ وتتخذ مواقفها بكل شجاعة ووضوح، وتمارس سياسة العقوبة المغلظة على كيان الاحتلال، ولا تبالي بالحسابات الصغيرة والاعتبارات الجانبية، وتعلن استعدادها لخوض المعركة مع الاحتلال حتى النهاية.
على الضفة الأخرى، تلملم (إسرائيل) ذاتها، وينتابها القلق والحيرة والاضطراب، وتراوح بين شدّ كبرياءها المصطنع وجذب مصالحها الهامة، وتقف في موقف المتلقي للضربات العقابية دون أن تدرك لها ردا أو علاجا.
ما الذي منعنا، كفلسطينيين وعرب ومسلمين، على المستوى الرسمي، من تلمّس شذرات من دروس العزة التركية طيلة المراحل والعقود الماضية؟!
لم يجرؤ منا –بكل أسف- أحد على سحب أو استدعاء سفيره لدى (إسرائيل) عوضا عن طرد السفير الإسرائيلي لديه، أو حتى مجرد التهديد بتعليق أي بند من بنود المعاهدات البائسة التي حكمت الكثير من سياساتنا ومواقفنا العربية حتى اللحظة.
وحتى في اللحظة التي سالت فيها الدماء المصرية العزيزة مؤخرا، واتخذ القرار الأولي الشجاع من لدن الحكومة المصرية بسحب السفير المصري من "تل أبيب"، فإن المجلس العسكري الحاكم في مصر ألغى القرار لدواع وحسابات سياسية غير مفهومة في عصر مصر الثورة، وغير مدرجة على أجندة العزة والكرامة المصرية في مرحلة البحث عن الدور الطليعي واستعادة المكانة القومية الرائدة التي بددها النظام السابق على أعتاب التبعية والخضوع والارتهان للأجندة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.
تركيا تقدّم اليوم دروسا من ذهب لأنظمة الأمة وقياداتها الحاكمة.. فهل يمكن أن تلتقط بوعيها دقة اللحظة التاريخية وفرصة الارتباك والتراجع الإسرائيلي، لتمارس لأول مرة في تاريخها سياسة نظيفة تركن إلى كرامة الأمة وحقوقها وثوابتها أم أن العطار يصعب أن يصلح ما أفسده الدهر؟!