عبد الباري عطوان
انهى الجيش الامريكي امس رسميا الحرب في العراق، وانزل العلم الامريكي عن آخر قواعده العسكرية، وسط اكبر مهرجان احتفالي للكذب والتضليل حضره ليون بانيتا وزير الدفاع وعدد من قادة الجيوش الامريكية.
الكذب لان الحرب لم تنته في العراق ، فما زالت التفجيرات والسيارات المفخخة والانعدام الامني من المرتكزات الاساسية في هذا البلد المكلوم، والتضليل ينعكس في الادعاءات الامريكية بالانتصار وانجاز المهمة التي من اجلها غزت ومن ثم احتلت القوات الامريكية العراق، اي القضاء على الديكتاتورية والارهاب.
الرئيس الامريكي باراك اوباما شارك بفاعلية يحسد عليها في مهرجان الكذب والتضليل، عندما اعلن في خطابه الذي القاه في كارولينا الجنوبية يوم امس الاول ’ان حرب العراق تمثل نجاحا باهرا تطلب انجازه تسع سنوات’. وتغوّل في التضليل عندما قال في الخطاب نفسه ’القوات الامريكية تغادر العراق ورأسها مرفوع تاركة خلفها عراقا مستقرا وصلبا وصديقا لأمريكا’.
لا نفهم كيف تغادر القوات الامريكية العراق ورأسها مرفوع، وقد تركت بلدا هو الاكثر فسادا على وجه المعمورة، لا يتوفر لأهله ابسط الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء وتعليم، ناهيك عن الأمان، وتمزقه الخلافات الطائفية، وهجرته الطبقة الوسطى، واعاد تنظيم ’القاعدة’ قواعده فيه.
كيف يكون هذا العراق ممثلا لامريكا وثقافتها وديمقراطيتها، مثلما قال الرئيس اوباما، ورئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي اجاب عن سؤال قبل اسبوع حول تعريفه لنفسه بالقول إنه شيعي اولا، عراقي ثانيا، عربي ثالثا، وعضو في حزب الدعوة رابعا.
العراق يحكم اليوم بديكتاتورية طائفية، والكتل السياسية فيه فشلت فشلا ذريعا في حل خلافاتها، والعداء بين السيد المالكي وخصمه اياد علاوي اكثر شراسة من عدائهما مجتمعين لنظام الرئيس الراحل صدام حسين.
’ ’ ’
ما يتجنب الرئيس اوباما وكل قادته العسكريين المشاركين في احتفالات امس قوله، والاعتراف به، هو ان امريكا خرجت مهزومة بشكل مهين ومذل من العراق، بفضل المقاومة الاسلامية الشرسة وعملياتها الجريئة استمرت على مدى سنوات الاحتلال التسع الماضية.
الادارات الامريكية خططت لبقاء ابدي في العراق، واقامت اربع قواعد عسكرية رئيسية، كانت بمثابة مدن مجهزة بكل متطلبات الحياة على الطريقة الامريكية، ولكن عمليات المقاومة، وخديعة الطبقة العراقية الحاكمة لها، اي لأمريكا، عندما انخرطت في تحالف استراتيجي كامل مع ايران عدوة واشنطن الحالية، دفعت الرئيس اوباما الى ’القاء المنشفة’ والتسليم بالهزيمة، ولكن دون الاعلان عنها.
اي انتصار هذا الذي يتحدث عنه الرئيس اوباما وجنرالاته، وهو الذي خسر اكثر من خمسة آلاف جندي وثلاثين الف جريح، وتريليون دولار، وفوق كل هذا وذاك سمعة بلاده، وفوزها بأكبر قدر من الكراهية والعداء في اوساط مليار ونصف المليار مسلم، وضعفهم من ابناء العالم الثالث بسبب خوض هذه الحرب استنادا الى اكاذيب ومخططات غير انسانية وغير اخلاقية، نتج عنها استشهاد مليون مواطن عراقي على الاقل.
ازمة العراق الحقيقية ستبدأ الآن بعد انسحاب القوات الامريكية، لأن الهويات الطائفية فيه تقدمت على الهوية الوطنية الجامعة والموحدة، ولان النخبة السياسية التي جاءت مع الاحتلال وترعرعت في ظل حمايته، قدمت نموذجا فريدا في الفساد ونهب الثروات، وقتل الروح الوطنية، وبالتالي الفشل المخجل في اقامة دولة مدنية عنوانها الحريات العامة والمساواة والقضاء العادل المستقل.
من المفارقة ان النظام العراقي السابق الذي كان متهما بالديكتاتورية والطغيان وحد النسبة الاكبر من العراقيين ضده خاصة في المعارضة الخارجية، ولكن النظام الجديد يفرق العراقيين ويفاقم خلافاتهم بسبب احقاده الطائفية وممارساته الثأرية، واستئثاره والمجموعة الصغيرة المحيطة به بنهب الاخضر واليابس من ثروات البلاد.
العراق قبل الاحتلال الامريكي، كان محكوما بالديكتاتورية، وقليلون الذين يجادلون حول هذه المسألة، ولكنه كان بلدا موحدا مهابا، كان قوة اقليمية عظمى، يخشاه اعداؤه قبل اصدقائه، اما عراق اليوم فعراق ضعيف مقطع الاوصال، تتقاتل الدول الاقليمية والخارجية على قصعته النفطية، بينما شعبه يتضور جوعا ويفتقد ابسط احتياجاته المعيشية، وهو الذي يعيش على احتياطات نفطية مثبتة تصل الى 190 مليار برميل.
’ ’ ’
ادارة الرئيس بوش ومحافظوها الجدد، ومعظمهم من انصار اسرائيل، قالت انها ستقدم نموذجا ديمقراطيا يحتذى في المنطقة، وستؤسس لدولة مدنية عنوانها الازدهار والنمو الاقتصادي والمساواة الاجتماعية والسياسية، على غرار المجتمعات والدول الغربية.. امريكا لجأت للترويج لهذا النموذج بعد ان تبين كذب مقولة اسلحة الدمار الشامل، وللتغطية عليها. انه مسلسل من الاكاذيب الفاضحة للدولة التي تدعي الشفافية والديمقراطية والطهارة واحترام حقوق الانسان وقيادة العالم الحر.
العراقيون الشرفاء، وهم الاكثرية الساحقة، يجب ان ينهضوا من شرنقة صمتهم، ويلاحقوا الولايات المتحدة التي دمرت بلادهم، ومزقت وحدتهم الوطنية، وبذرت بذور الطائفية البغيضة في صفوفهم امام المحاكم الدولية، مطالبين باعتذارها، ان لم يكن محاكمتها على جرائمها هذه اولا، ودفع تعويضات عن كل شهيد عراقي قتل، وكل حجر دمر، انتصارا لكرامة هذا البلد، ومواساة لمليون ارملة واكثر من اربعة ملايين يتيم.
ولا يجب ان ينسى هؤلاء الشرفاء كل الذين تعاونوا مع الاحتلال، وأضفوا الشرعية على اكاذيبه، وسهلوا جرائمه، فهؤلاء لا يقلون اجراما عن الطغاة العرب الذين تطيح بهم الثورات العربية الواحد تلو الآخر، ولا نبالغ اذا قلنا انهم اكثر اجراما منهم.
مرة اخرى نقول شكرا للمقاومة العراقية التي هزمت امريكا واجبرتها على الانسحاب المهين الذي نراه حاليا، مثلما نقول ايضا شكرا للمقاومة الافغانية التي انجزت انتصارا آخر لا يقل قيمة وشأنا على الغطرسة الامريكية وحلف الناتو الذي يدعم احتلالاتها وعدوانها. فطالما كان هناك احتلال لا بد من مقاومته، هكذا علمنا التاريخ ودروسه، والشعبان العراقي والافغاني اثبتا انهما بروفسورات في هذه الاكاديمية.