د. يونس الأسطل
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(
(إبراهيم: 5)
شهد هذا الأسبوع الذكرى الثانية والعشرين لانطلاقة الانتفاضة الأولى، وقد سُمِّيتْ بانتفاضة المساجد؛ نظراً لأنها تزامنتْ مع تجديد انبعاث حركة المقاومة الإسلامية ( حماس)؛ إذْ مع نهاية الأسبوع الأول لاندلاعها كان البيان الأول الذي زَفَّ للشعب الفلسطيني، وللأمة الإسلامية، نبأ ميلاد حركة المقاومة الإسلامية، وتحديداً في الرابع عشر من كانون الأول في نهاية عام 1987م.
وقد بدأت برجم الصهاينة بالحجارة، ثم تطورت إلى السكاكين، فلما واجه الصهاينة الحجر بالرصاص؛ قامت الحاجة إلى امتلاك الأسلحة الخفيفة، ثم كان ميلاد العمليات الاستشهادية، بعد أن أضحتْ جرائم الاحتلال لا تطاق؛ حيث لجأ إلى القتل المركَّز بأحدث وسائل التكنولوجيا والتجسس، وكان التعجيل باتفاقية أوسلو، تلك التي وَجَدَ فيها المناضلون تحت راية الإلحاد، أو التنكر للدين، طوق نجاة، بعد أن استحوذتْ الحركة الإسلامية على جيل الشباب والأشبال، وأمسى معظم الفصائل الفلسطينية قياداتٍ في الخارج في طريقها إلى الشيخوخة، دون رصيد شعبي يذكر في الشعب الفلسطيني المقيم في الداخل، لذلك فقد تعهدوا للاحتلال بحراسة أمنه من المقاومة، لا سيما كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية، في مقابل الوعد بدولة على الورق، هي في جوهرها حكم ذاتي محدود ومؤقت، يُوَفِّرُ بعض الامتيازات المادية الشخصية لأصحاب تلك المقاولة، وقد استطاعوا أن يوفروا الأمن للاحتلال بصورةٍ أدهشتْ اليهود أنفسَهم، كما يحصل اليوم في الضفة الغربية، ولكنه الاحتقان الضروري، والغيظ اللازم؛ لاستئناف المقاومة ضد الاحتلال وعملائه، وهو ما جرى ترجمته في انتفاضة الأقصى.
لقد تمكنت حركة المقاومة الإسلامية في هذه الانتفاضة الثانية أن تبتكر قذائف الهاون، والعبوات الناسفة، وقذائف الياسين، ثم الصواريخ التي تطورت حتى أصبحت تصل إلى جميع المستوطنات في غلاف قطاع غزة، وأخيراً وصلت إلى المجدل وأسدود والسبع، ولعل أنكى ما فَعَلَ بالصهاينة الأفاعيل هو حرب الأَنْفاق، وهي التي عَجَّلَتْ بكنس الاحتلال والمستوطنين عن قطاع غزة، ثم تصدت له باقتدار في حرب الفرقان الأخيرة، إذْ فوجئ العدو في الحرب البرية بالمقاومة تخرج له من وراء خطوط التوغل، وتُعْطِبُ المزيد من الدبابات، وهو ما جعل العدو يوقف العدوان من طرفٍ واحدٍ، ويخرج في أربعٍ وعشرين ساعة بعد معركة نافتْ على اثنين وعشرين يوماً، سخَّر فيها العدو معظم عُدَّتِهِ، وأحدث ما لديه من أسلحة الدمار المحرَّمة إلهياً، ثم دولياً، ولكنه فشل في تحقيق أهدافه؛ حيث قد بَيَّتَ سَحْقَ المقاومة، والجَوْسَ خلال ديارنا، والإطاحة بحكومة تسيير الأعمال، ووضع الأغلال في أيدي ألوف الشباب؛ ليتضاعف عدد الأسرى والمخطوفين، ومن أجل أن يعود زبائن أوسلو إلى تصفية الحساب مع الشعب الفلسطيني في غزة، بعد أن مَكَّنَنا الله عز وجل من تطهير القطاع من رجز الفلتان، وأنعم علينا بالأمن غير المسبوق منذ قرنٍ أو يزيد.
لذلك فقد حُقَّ لشعب غزة أن يحتفل بالذكرى السنوية الأولى للانتصار التي جاءت متزامنةً مع الذكرى الثانية والعشرين لانطلاقة حركة المقاومة الإسلامية حماس، وكأنَّ مولانا تبارك وتعالى قد كافأنا في مقابل كل عام من الجهاد والمقاومة بيوم من ملحمة الصمود والتصدي للعدوان الهمجي العالمي علينا مؤخراً؛ فإنه عدوان من اليهود والصليبيين، ومن الشانئين العرب، وخونة الشعب الفلسطيني، ولكن الله سَلَّمَ؛ إنه عزيز حكيم.
أما آية المقال فإنها تسوق خبراً مشفوعاً بالقسم أن الله تبارك وتعالى قد أرسل سيدنا موسى بآياته، وطلب إليه أن يخرج بها قومه من الظلمات إلى النور، كما كان نزول القرآن على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، كما أمره أن يذكرهم بأيام الله؛ ليكون فيها تذكرة وعبرة لكل صَبَّار شكور.
وقد أفهم ختم الآية بالصبار الشكور أن أيام الله التي أريد وَعْظُ بني إسرائيل بها تشمل أيام الابتلاء والشدة التي تحتاج إلى صبر جميل، كما تتضمن أيام العزة والكرامة، فقد أورث الله عز وجل بني إسرائيل، وهم مستضعفون، مشارقَ الأرض ومغاربها التي بارك فيها، ودمَّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.
وقد تضمنتِ الآية التي تليها طَرَفاً من أيام الله المرادة بآية المقال، فقد أنجاهم من آل فرعون؛ يسومونهم سوء العذاب ويُذَبِّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وكان مطلوباً منهم أن يستعينوا بالله، ويصبروا؛ فإن الأرض لله، يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، ثم إنه لما انفلق لهم البحر فأنجاهم، وأَغْرَقَ آل فرعون وهم ينظرون، كان مطلوباً منهم أن يشكروا تلك النعمة، وقد تَأَذَّنَ ربكم لَئِنْ شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.
إذاً فنحن مكلَّفون أن نقتدي بسيدنا موسى عليه السلام، وأن نذكر قومنا بأيام الله، كما قال سبحانه لأهل بدر:" وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " الأنفال(26).
إن الاحتفال بذكرى انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية يجيء في إطار التذكير بأيام الله، فقد جاء ذلك على رأس أربعين سنة من التيه في الأرض، كان تثقيف المجاهدين، أو المناضلين، على الماركسية والشيوعية بدل الإيمان بالله، وتصديق المرسلين، كما كان المثل الأعلى لهم بعض الثوريين الغربيين أو الشرقيين، من أمثال جيفارا إلى ماوتسي تونج إلى ديغول أو هتلر، دون التعريج على سيرة الصحابة الكرام، أو القادة العظام في تاريخنا المُشْرق، من أمثال خالد بن الوليد إلى صلاح الدين الأيوبي إلى سيف الدين قُطز، ثم السلطان عبد الحميد، وغيرهم كثير من الذين سَطَّروا أنصع الصفحات، وأروع البطولات في التصدي للعدوان الصليبي، أو الهجوم التتري الهمجي على العالم الإسلامي، والحضارة الإنسانية.
ولعله من المناسب ونحن نستقبل ذكرى الهجرة النبوية أن نقول: إن إجماع الصحابة على التأريخ بالهجرة تنبيهٌ على أن التاريخ الحقيقي قد بدأ من هنا، لا من البعثة، ولا من بعض الانتصارات الكبرى، كبدرٍ، والخندق، ثم الحديبية وتبوك، وغيرها من أيام الله.
إن الهجرة كانت تعني الانتقال بالإسلام من الدعوة إلى الدولة، ومن الاستضعاف إلى القوة، ويعود ذلك، بعد فضل الله تعالى، إلى الإذن بالدفع والمقاومة التي انطلقتْ تحت مظلة السلطان، أو الكيان السياسي، بل الخلافة، وإننا اليوم في فلسطين المحتلة قد أكرمنا المولى سبحانه بانطلاق المقاومة الإسلامية تحت مظلة النظام الحكومي الذي يدعم المقاومة، فما كان للشعب الفلسطيني أن يمنحنا الثقة، وأن يَسْخَى بالأموال والبنين، لولا ما رآه من الإنجازات على مستوى المقاومة، والتحرير، وتحقيق الأمن، والتشبث بالمبادئ، وثوابت القضية الفلسطينية، رغم الحصار والفلتان، والاحتيال بالحوار أو جنون العدوان.
إن الاحتفال بذكرى الانتفاضة الأولى احتفال بانقشاع حقبة التيه، وعودة قضية فلسطين سيرتها الأولى إسلامية عربية، وصيرورة العقيدة والإيمان بالله سلاحاً أمضى في معركة التحرير، ذلك أن النصر من عند الله العزيز الحكيم، وهو مولانا، فنعم المولى، ونعم النصير.
ولله الحمد من قبل ومن بعد