بقلم: براء نزار ريان
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"
رغم الموت والمذابح والتشريد
رغم الجوع والضحايا والتهديد
سيل الانتفاضة زاحف كالرعود
ما بيوقف حتى يقضى على اليهود
بانتفاضتنا .. يا حماس
نبني دولتنا .. يا حماس
مين غيرك يا حماس رافع رايتنا!
وهل دار الفلك على مثل وجه حماس؛ صبوحٍ مشرق، مبتسم يفيض بمعاني الحب والتفاؤل، والحزم والعزم!
ومن غير حماس، تصدّر الصفّ المسلم المجاهد، وذاد عن حياض الأمة في أشرس معاركها، ورفع راية الأمة بالدماء والأشلاء، وكان رأس الحربة الحاد الأزجّ في وجه كل عدو ومتآمر.
من غير حماس حافظ على وضوح الطريق، وصان البندقية والمبدأ، وسار في حقل الألغام فسلم وغنم، سلم من الانحراف والسقوط، وغنم محبّة الأمة والتفاف الجماهير الإسلامية بل والحرّة على طول البسيطة وعرضها!
من غير حماس حيّر العالم، وجعله يضرب كفًا بكف، ويطرق محتارًا عاجزًا عن النيل منها، والقضاء عليها، فلا الاغتيال ولا الحصار ولا الحرب الضروس آتت أكلها، ولا فتت في عضد رجالها.
أما حكايتنا مع حماس.. فطويلة طويلة.. شجية مفعمة حافلة!
لا أعرف بدايتها، فنحن وحماس أبناء جيل واحد تقريبًا، معًا كبرنا وكانت تكبر بسرعة وقوة، تتفوق على الجميع، وتبهرهم، وتثبت يومًا بعد يوم، أنها غرسة ربّانية لا يسهل اقتلاعها، وزاد قرآني، يتزّود منها من أحبّ ويصعب على المبغض ابتلاعها.
لا أعرف من أين بدأت الحكاية، لكنني أذكر أنّ أوّل ما حفّظتني أمي بعد البسملة والفاتحة والإخلاص وبعض الأذكار – أنشودة: مين غيرك يا حماس رافع رايتنا! ولذلك صدّرتها مقالتي.
لقد رضعنا حبّها مع الحليب، وتقّوتنا مبادءها مع أول لقيماتنا، وعشنا في بيت من بيوتات حماس العريقة، وكنّا بإذن الله الرابحين، ولله الحمد والمنّة.
حدّثني والدي عن حماس وطالما حدثني عنها .. عنه وعن إخوانه قبل أن تولد حماس، كيف كانوا يتوقون للمواجهة مع الصهاينة، ويتحرّقون لليوم الذي يتسلّم فيه الإسلاميون الراية!
حدّثني عن "أحمد ياسين" كثيرًا، فكان مما قال:
سألت شيخنا يومًا قبل الانتفاضة بسنوات، قلت: يا شيخ، لو أن شابًا من الشباب تناول سكينًا ماضية، وانطلق بها إلى أحد الجنود المحتلين؛ فذبحه. ماذا تقول فيه؟
قال الشيخ: يكون بطلًا شهيدًا.
قال والدي ففرحت بكلمته فرحًا شديدًا، وأيقنت أننا على أبواب مقارعة اليهود!
وحدثني عن "أحمد ياسيـن" ثانية فقال:
خطب بنا شيخنا الياسين في مسجد العباس –ونحن ثلة من أبنائه المخلصين- فقال: يا شباب، اعلموا أننا سنقاتلهم في اليوم الذي نمتلك فيه مسدسًا واحدًا.
لقد أعدّ الياسين رجاله، ورتّب أوراقه جيدًا، وغرس البذرة وتعهّد النبتة، فلما كان اليوم الموعود، أعطى "صلاحًا" الراية!
حدّثني عن الانتفاضة –وهي الأخت الشقيقة للانطلاقة فأمهما الحركة الإسلامية وأبوهما أحمد ياسين- وعن مخاض حماس من 8/12 إلى 14/12. عن تلك الأيام الحافلة، التي صنع فيها التاريخ، وغيّرت مجرى القضية الفلسطينية بل ووجه العالم، وأوجدت لاعبًا قويًا جدّيًا فرض نفسه على الساحة وازداد قوة يوما بعد يوم.
ثم كبرنا قليلًا، فوجدنا بيتنا حافلًا بكبار المجاهدين، وكان لنا النصيب في مجالسة أمثال عيّاش والغول، ومعرفة أمثال حسن سلامة!
ثمّ صرنا أشبال حماس وشبابها، وعلى موائد الياسين والرنتيسي والمقادمة وشحادة وصيام وأمثالهم اجتمعنا، ومن معينهم نهلنا، عرفنا الياسين محبًا متواضعًا، وأذكر جيدًا يوم أحاطه الصغار وهم يهتفون: أحمد ياسين، فانتهرهم مرافقه.
فغضب الشيخ وأمره بالتوقّف، وسلّم علينا جميعًا، وقبّلنا يومها جبينه ووجنتيه ويديه!
وعرفنا الرنتيسي خطيبًا بليغًا، وسياسيًا مقنعًا، وواعظًا مؤثرًا.
وعرفنا المقادمة، مفكرًا عظيمًا، وبحرًا لا ساحل له ولا قاع!
أما شحادة، فعرفناه فدائيًا لا يعرف الراحة ولا الدعة، ومع ذلك رقيق القلب مفعم الشعور.
وكذلك صيام وقورًا صامتًا جادًا، يعمل أكثر مما يتكلّم.
وعرفت والدي؛ قرين هؤلاء ورفيق دربهم، تذكّرته اليوم، إذ يحدّثني عن مخاض حماس قائلًا:
شيّعت "صلاحًا" –وكان ممثل الشمال في قيادة القطاع- يوم اجتماع التأسيس –تأسيس حماس- إلى المكان الفلاني، فلمّا افترقنا قلت له:
"بأترجّاك يا صلاح" يعني: أرجوك أن تدفع باتجاه التصعيد وإعلان انطلاق العمل الجهادي.
فعاد صلاح بالبشرى، وامتدّ لهيب حماس يحرق الغاصبين، ويبهر كلّ محبّ ومبغض!
يا والدي، في يوم حماس.. أقول لك:
إننا نفتقدك، وحماس بأسرها اليوم ترفع رأسها بك، وتشهد الله وأحبابك، والناس أجمعين، بأن تسير على خطاك، ومن سبقك ومن لحقك من قادتها العظماء.
وعلى أعتاب يوم الانطلاقة تذكرتك.. إذ تحدّثني عن حماس .. عن نشأتها طفلة كبيرة! وشتلة عصية على الاقتلاع! عن حماس إذ تكبر تحت ناظريك شيئًا فشيئًا .. وعنك وإخوانك حين كنتم تعدون أفرادها فردًا فردًا، وتسعدون بكل وافد جديد! أحمده تعالى أنك شهدت حماس وقد كثرها الله، وقواها وأعزها وأذلّ شانئيها.
وفي يوم الانطلاقة أفتخر بحماس، بانتمائي لها، وبأهلي الذين ناصروها، وسجّلوا أروع مواقفها،
في يوم حماس أفتخر بموقف الصغار الحالمين، الأذكياء الطيبين، الشجعان المدللين..
وموقف النسوة الطاهرات، الواثقات بالله، الموقنات بوعد الله.
وموقف الوالد الجسور، رجل المبادئ الثابت، العالم العامل.. الصادق في عزمه
موقف هؤلاء.. إذ جلسوا تحت النيران، يتحدّون الطيران،
جلسوا ينتظرون الصاروخ .. شعارهم: لن نهاجر مرّتين.. ولن تقهروا إرادتنا..
فكلمة الله هي العليا.. ولو بالدماء..
موقف هؤلاء إذ تقاذفتهم الحمم، وألقت بأشلائهم في الشوارع وبيوت الجيران.. هو أكبر موقف حمساوي أفتخر به.. وأعتز..
والحمد لله على كلّ حال!
وفي يوم حماس أرفع رأسي بمن بقي من قادتها، بهنية الثابت الصابر، واسع الصدر، كبير القلب، الوفي لإخوانه الشهداء، والحريص على تراثهم وأهليهم، وأردد ما قلته في حقه:
إن قائدًا يحمل هذا القدر من الوفاء لجديرٌ بتوفيق الله عزّ وجلّ..
أسأله تعالى أن يوفّق هنية، ويعلي شأنه، ويمدّ في عمره، وأن يرزقنا خلفه صلاة في المسجد الأقصى بإذن الله.