شمال غزة-كمال عليان
لا زال مشهد الجثث والأشلاء المتناثرة في مدرسة الفاخورة التي استهدفت خلال الحرب على غزة، عالقا في ذاكرة الشاب بكر معين ذيب (22 عاما) والذي نجا بأعجوبة من وسط دوامة الموت المحقق.
المشهد الذي رآه ديب تجربة جعلت من يوم الثلاثاء السادس من يناير 2009 نقشاً في ذاكرته يصعب نسيانه، كما يقول.
الشاب ذيب عاد بذاكرته إلى الوراء ليحدثنا عن مأساة يعجز القلم ويجف الحبر عن كتابتها ليقول:" كنت في تلك اللحظات ذاهبا إلى أقاربنا لأعيد لهم فرن الطين الذي كنا قد استعرناه منهم لطهي العام نظرا لانقطاع الكهرباء"، مؤكدا على أنه بمجرد وصوله لأول الشارع وقعت الحادثة المؤسفة.
لحظات الموت
وبعيون دامعة واصل ديب حديثه قائلاً أن قذيفتين سقطتا وسط العائلة التي كانت تجلس أمام البيت ليروحوا عن أنفسهم بعد الانقطاع الطويل للكهرباء، منوها إلى أنه لم يكن هناك مقاومين أو صواريخ بجانب البيت، مكذبا بذلك الرواية الصهيونية.
ويضيف :" عندها رأيت الجثث والأشلاء قد تناثرت أمام البيت لدرجة أن رأس عمي سمير قد سقط أمامي"، مشيرا إلى أنه لم يستطع أن يعمل شيئا من شدة الصدمة.
وقد قصفت طائرات الاحتلال عائلة ديب في منطقة الفاخورة شمالي قطاع غزة بصاروخين أدت إلى استشهاد 11 فرداً من أبنائها بينهم 5 أطفال ومسنة في السادس من كانون الثاني (يناير) الماضي خلال معركة الفرقان.
وبجانبه يجلس الشاب حسين ديب (27 عاماً) والذي أصيب بشظايا في مختلف أنحاء جسمه يومها ليقول :" كنا يومها نجلس في فناء المنزل البعيد عن مناطق الاحتكاك مع جيش الاحتلال، وكان الصغار يلعبون حولنا"، مبينا أنهم لم يشعروا بأي خطر نظرا لبعد منزلهم عن مناطق التوغل الإسرائيلي.
ويضيف حسين عائداً بنا إلى لحظات الموت التي عاشتها العائلة: "فجأة سقطت قذيفة إلى جانبنا وبعدها بثوان معدودة سقطت أخرى وسطنا تماماً، شعرت حينها بأنني في أنفاسي الأخيرة وأنا أنزف من كل مكان في جسدي"، مشيرا إلى الضغط الشديد في كافة أنحاء جسده من شدة الانفجار وعدد الشظايا المهول التي انتشرت في المكان وانعدام الرؤية لديه بشكل كامل من شدة الدخان وكثافته.
ويوضح حسين أنه حاول نقل ابنة أخيه نور التي لم تتجاوز 4 أعوام إلى خارج المكان، لكنه أثناء حملها سقط على الأرض ليواصل أحد الجيران حملها إلى الشارع الرئيسي، بينما هرعت سيارات الإسعاف لنقل 17 فرداً من العائلة ما بين شهيد وجريح وسط ذهول الجيران الذين فوجئوا بهذه الجريمة، قبل أن يصدموا بقصف مدرسة الفاخورة بعد ذلك بدقائق.
ماتت بين ذراعيه
وتوجهت "الرسالة نت " إلى مكان سقوط صواريخ مجزرة الفاخورة لتجد هناك آثار الشظايا التي بقيت مرسومة على الجدران والرصيف لتبقى شاهدة على مدى عنجهية الاحتلال وبضيف سواد إلى صورته السوداء أصلا.
الشاب عبد الله حميد (21 عاما) وهو أحد الناجين من المجزرة قال لنا مستكملا تفاصيل الجريمة:" كنا جالسين عند مدرسة الفاخورة وكان هناك الكثير من الأطفال والنساء الذين شردوا من بيوتهم في منطقة بيت لاهيا إلى هذه المدرسة لحمايتهم"، مبينا أنه بعد لحظات قليلة وإذا بعدة صواريخ تمطر المنطقة لتحول الجميع إلى أشلاء متناثرة في المكان.
ويضيف :" حينها أصبت في بطني ويدي ونظرت حولي وإذ بالجميع ممددون على الأرض والدماء تسيل من كل واحد منهم، بينما الدخان كان يحاصرنا من كل مكان"، موضحا أنه حاول إنقاذ طفلة صغيرة لكنه لم يستطع الحركة بسبب إصابته، مما جعلها تموت بين ذراعيه وهي تنزف.
ويتابع حميد وقد اغرورقت عيناه بالدموع التي حاول حبسها :" لا يمكن لي وصف تلك اللحظات الصعبة، فما حدث كان بمثابة كابوس يبدو أنه لن يغادرني، رغم مرور عام على تلك الجريمة"، موضحا أن تفاصيل الجريمة الإسرائيلية أصبحت جزءا من حياته.
وقد أسقطت الطائرات الصهيونية يوم الثلاثاء 6 يناير من هذا العام حمم غضبها على مدرسة الفاخورة التابعة للأونروا بمخيم جباليا أدت لاستشهاد 46 شهيدا من المشردين الذين لجؤا لهذه المدرسة لعلها تكون مأمنا لهم.
وزعمت تحقيقات أجراها جيش الاحتلال أن الاستهداف لم يكن لنازحين فلسطينيين بل لمجموعة من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وأخطأت إحدى القذائف المدفعية هدفها وأوقعت العشرات من الضحايا, وهو ادعاء نفاه مدير عمليات الأونروا جون كينج يومها على الفور وكذلك شهود عيان تحدثت إليهم "الرسالة".
استهداف متعمد
وبدوره قال الحاج أبو محمد الأشقر للـ"الرسالة" وهو أحد الناجين من مجزرة الفاخورة أن الاستهداف لم يكن لمقاومين فلسطينيين، بل إن الصواريخ الإسرائيلية وقعت مباشرة على النازحين الذين فروا من جحيم العدوان على بلدة بيت لاهيا والأحياء المجاورة.
وأوضح الأشقر أن المنطقة المستهدفة بقرب مدرسة الفاخورة كانت مكتظة بالهاربين من الموت في أحياء بيت لاهيا لكنهم جاؤوا ليموتوا قرب المكان الذي ظنوا أنه محمي وفق القوانين الدولية" مشيراً إلى أنه لم يخطر ببال أحد أن تتعرض مراكز إيواء النازحين إلى قصف.
لكنه يؤكد أنه لا محرم أمام قوات الاحتلال التي ترتكب كل محرم وغير قانوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل" مؤكداً أن "الاستهداف كان بشكل متعمد وجنوني من قبل الاحتلال في إطار الحرب على غزة.
من جانبه قال أبو طارق (52عاما) أحد جيران المدرسة والذي فقد أحد أبنائه أثناء القصف المكان المستهدف كان خالياً إلا من النازحين من أحياء بيت لاهيا، مؤكدة أن أيا من المقاومين لم يكن في المكان.
وأوضح أبو طارق والذي لم يكن يبعد عن المكان المستهدف سوى أمتار قليلة أنه شاهد أشلاء الأطفال والضحايا تتناثر عقب سقوط الصواريخ على المكان، متوقعا أن يكون الاستهداف متعمدا يومها لإبلاغ النازحين أن لا مكان آمنا لهم في قطاع غزة.
يتوقف أبو طارق قليلاً عن حديثه محاولاً إخفاء دموعه التي تسيل كلما تذكر مشهد ابنه الذي مات أمامه ويتابع :" لقد شهدت استشهاد ابني أحمد الذي كان جالسا مع أصدقائه في المكان وبعدما حاولت إسعافه رأيت بأم عيني روحه وهي تطير إلى خالقها"، مؤكدا على أن ابنه نطق بالشهادة أمامه.
يبدو أن منظر دماء وأشلاء شهداء مجزرة الفاخورة سيبقى راسخا وبكل قوة في عقول من عاشوا تلك اللحظات العصيبة، إلا أنها لن تثني من عزيمتهم.