غزة- محمد أبو قمر
يسير الثلاثيني إسماعيل الجرو بخطوات بطيئة ذهابا وإيابا أمام بقايا منازل عائلته المدمرة في منطقة جبل الريس الواقعة إلى الشمال الشرقي لقطاع غزة، يسترجع بذاكرته عاما مضى قضى فيه أياما عصيبة تحت النيران ولم يغادر المكان إلا قبل انتهاء الحرب بثلاثة أيام.
ورغم الألم الذي يعتصر ذاكرته في ليلة ارتسم فيها شعاع ضوء القمر على ركام المنازل إلا أن صورة المقاتلين الذين كانوا يقارعون العدو في المنطقة بقيت حية وهو يقول "رغم ما حدث من مأساة لكن هناك أحداث أشعرتنا بالفخر والعزة".
كان الجرو يراقب تحركات الاحتلال والمقاومة من الطابق الرابع في منزلهم ليقسم أن دبابتين "تفتفتن" أمام عينه، كما يقول.
فيما تشخص المشهد الآخر عندما خرج جندي من دبابته وأطلق مقاوم رصاصتين فقط من مكان بعيد ، إلا أن شدة الخوف أوقعت الجندي خمس مرات أثناء محاولته الصعود إلى الدبابة للاحتماء بها.
ولا زالت صورة ماثلة أمام عينيه لمقاوم اعتلى شجرة "الصرو" ليرصد المكان للمجاهدين وهو يأكل التمر رغم غزارة النيران من حوله.
وكأن شريط الذكريات عاد بسرعة عندما بدأ يشير الجرو بأصابعه إلى مكان توغل آليات الاحتلال من الجهة الشرقية وتمركزها على جبل الصوراني ومن ثم الريس ، حيث اشتد وطيس المعركة ودب الرعب في نفوس الأطفال، حينها غادرت نصف العائلة المكان فيما بقي إسماعيل برفقة عدد من عائلته في المنطقة قبل أن يلحقوهم في الأيام الأخيرة من الحرب .
وسرد الجرو حادثة إصابة مقاوم في قدمه حاول الزحف تجاه منزل الطبيب عوني الجرو عله يسعفه إلا أنه لم يتمكن من الوصول عندما اشتدت عليه الآلام وبقي بجانب المسجد حتى فارق الحياة.
وقد أسعفت خزانات المياه المتواجدة في الطابق الأرضي من المنزل أفراد عائلة الجرو الذين اعتمدوا عليها بعدما تعمدت قوات الاحتلال اختراق الخزانات التي تعتلي المنزل بالرصاص.
لكن المعضلة الأكبر التي واجهت من تبقى من أفراد العائلة في مكان التوغل انقطاع الكهرباء والهواتف حيث لم يتمكنوا من التواصل مع أقاربهم في الخارج.
ولم تسلم منازل العائلة المتلاصقة من قصف قوات الاحتلال وتضررها بشكل كبير قبل مغادرتها.
الحادثة المؤلمة التي أجبرت جميع أفراد العائلة على مغادرة المنطقة تمثلت في استشهاد "البينا" زوجة الدكتور عوني الجرو الأوكرانية الأصل مع طفلها ، حيث تقطعت جثتها أشلاء تناثرت في المكان فيما وجدوا جمجمة طفلها بجانب الحائط اثر قصف منزلهم بقذائف المدفعية.
بعد المشاهد المؤلمة وفقدان العائلة لشهيدين كان القرار بترك المكان في الأيام الأخيرة للحرب حيث هرعوا خارجين من المنزل رغم خطورة الأوضاع حتى تمكنوا من الانتقال للمدينة وإسعاف المصابين.
ثلاثة أيام فقط فصلت بين خروج العائلة وانتهاء الحرب ، لكن ساعة العودة لم تكن أقل صعوبة كما يصفها إسماعيل وذلك بعدما وجدوا منازلهم أثرا بعد عين وقد دفنت بين الرمال بجميع محتوياتها، وتحول "لرماد".
ويقول الجرو " عندما عدنا "سحرونا بالكابونات" رغم أن منطقة الجرو تحوي اثنين وأربعين منزلا دمرت بالكامل ، مشددا على أن المبالغ التي حصلوا عليها لم تكف لشراء ملابس وعفش لأفراد العائلة حيث غادروا المنزل بملابسهم التي يرتدونها فقط.
ويشير الجرو إلى أن قرار عدم مغادرتهم المكان لحظة بدء العملية البرية كان بناء على تجاربهم السابقة حيث لم تتعرض لهم قوات الاحتلال بأذى ، لكن خلال أيام الحرب الأخيرة كان الأمر مختلفا.
لجأ الجرو كغيره من المتضررين لاستئجار منزل للعيش مع أسرته ، وذلك بعدما أجهزت قوات الاحتلال على مصدر رزقه عندما دمرت مزرعة للأبقار وسيارة خاصة به ، واضطر للعمل سائقا على سيارة بالكاد توفر حاجة أبنائه اليومية.
تفرقت عائلة الجرو التي كانت تعيش في منازل متقاربة ، وبات كل منهم يعيش في شقق مستأجرة في انتظار من يتطلع إلى معاناتهم ويعيد إعمار منازلهم المدمرة .
ولا زالت آثار الحرب ترخي بظلالها على أطفال عائلة الجرو حيث لاحظ والدهم تراجع في تحصيلهم الدراسي ، وتسيطر مشاهد الحرب ومتابعة الأخبار السياسية على تفكيرهم ، كما لجئوا لألعاب قتالية تحاكي أيام الحرب .
وزارت مؤسسات دولية منطقة جبل الريس عقب الحرب وكشفت عن تعرضها لقذائف فسفورية ، كما أن الجرو أخرج من منزله المدمر ثمانية عشرة قطعة من بقايا الألغام المستخدمة في عملية التفجير.