القدس- الرسالة نت
لم تعد مدينة القدس المحتلة كما عايشها أصحابها، ففي كل شبر منها يشتمّ الزائر رائحة الاستيطان ويلمح محاولات التهويد، وعلى كل نافذة قديمة يُرفع علم الاحتلال الدخيل فيسلب منها كل معنى للأصالة، وبين الأزقة تُحشر قبعات المغتصبين لتخفي أي أثر للكوفية.
القدس المحتلة أمست اليوم غابة يسكنها الغريب والمهاجر واللاجئ، وتقطع أوصالها الأحياء الاستيطانية اليهودية، فخلال أقل من أسبوع تمت المصادقة على بناء حي استيطاني بالقرب من حي الطور المقدسي، وآخر في وسط حي شعفاط، وثالث على جبل الزيتون المطل على البلدة القديمة.
بداية السُم
ولأنه احتلال فأبرزُ خصاله الخداع والتضليل، كانت بداية سلسلة الأحياء الاستيطانية في القدس المحتلة بإنشاء أول حي استيطاني عام 1960 تحت غطاء من الخداع غير المسبوق على الفلسطينيين.
ويذكر المتخصص في شؤون القدس وأستاذ الهندسة المعمارية في جامعة بيرزيت جمال عمرو أن اول حي استيطاني أنشئ في المدينة المقدسة تحت اسم يمين موشيه الذي تم بناؤه تحت حجج متعددة منذ عهد الدولة العثمانية، حيث كان اليهود يدّعون إنشاء بنية تحتية لدعم تلك الدولة تارة ولاستقبال الزوار تارة أخرى.
ويؤكد عمرو على أن بناء الأحياء الاستيطانية بدأ يأخذ أشكالاً متعددة في ظل رؤية أمنية بحتة، موضحاً أن أول خطوة في ذلك هي احتلال قمم الجبال والاستيلاء عليها، ومن ثم إنشاء مبان متصلة ببعضها البعض كي لا يسهل على رجال المقاومة اختراقها، وأخيراً اتباع سياسة الأصابع.
ويضيف:" تلك السياسة هي إدخال المباني الاستيطانية بشكل فردي داخل الأحياء العربية وبمجرد إدخال هذا السم يصبح الحي الفلسطيني منشقا على نفسه، حيث يُقسم إلى قسمين يفصلهما البناء الاستيطاني".
اغتصاب القدس
ويبين عمرو أن أوصال مدينة القدس المحتلة تقطعت بفعل الأحياء الاستيطانية إلى 28 تجمعاً سكانياً على عكس المدن الأخرى التي تشكل وحدة واحدة، لافتاً إلى أن سياسة الاحتلال هذه تجعل من المدينة ريفاً متأخراً يسوده الفقر وثقافة المخدرات وتضليل الشباب المقدسي والتسرب من المدارس والسلوك غير السوي لكثير من أبنائها، إضافة إلى البناء العشوائي والبعد الاجتماعي والاقتصادي بين السكان وإشعال روح المنافسة السلبية بينهم وإبقاء المدينة مفككة اجتماعيا وعمرانياً.
واعتبر المتخصص في شؤون القدس أن الاغتصاب هي الكلمة الصحيحة لما يقوم به الاحتلال في القدس المحتلة، لأنها تعني إحلال شيء مكان آخر عنوة، قائلاً إن الصهاينة لا يقصدون تشييد مبنى حضاريا أو إعمار الأرض، وإنما إحلال سكان مكان آخرين.
وتابع:" الإحلال يعني في أجندتهم عودة يهود العالم بحق ديني توراتي كأمة ليحلوا مكان الفلسطينيين، ومن هذا المنطلق حصل قبل عدة أيام قرار فصل المقدسيين الذين يقطنون خارج الجدار العنصري وبهذا ينزل عدد سكان المدينة من أقلية 34% إلى 22% في أحسن الأحوال".
ونوه عمرو إلى أن هذا الاستيطان سيكون تحت مبدأ "أكثر أرض، أقل سكان" الذي انطلقت منه بلدية الاحتلال لتعيين حدود القدس المحتلة فاتخذت مساراً متعرجاً، واصفاً الاحتلال بمجرم التخطيط الذي ينوي التخلص من التجمعات الفلسطينية الفارغة لتكون أراضي احتياط له وفق قاعدة الحد المتحرك.
أمثلة قاسية!
وخلال سنوات عدة تم إنشاء عدد كبير من الأحياء الاستيطانية على رؤوس التلال والأودية التي يسهل الدفاع عنها وعلى أنقاض ما هدم من أحياء وقرى عربية، الأمر الذي حصر المقدسين في مساحات ضيقة مطوقة بالمستوطنات، فأقيم من الجهة الشمالية للقدس حي أشكلول الملاصق لحي الشيخ جراح، وعلى جبل سكوبس والتلة الفرنسية حي شابيرا الاستيطاني، إضافة إلى تجمع استيطاني كبير على جبل الزيتون، وآخر باسم راموت على أراضي النبي صموئيل، ومستوطنة باسم عتاروت على أراضي الرام وبيت حنينا.
ومن ثم أقيم حيان على أراضي جبل المكبر وثالث باسم جيلا على أراضي بيت صفافا، وحيين آخرين على أراضي الشيخ جراح وعلى القسم الأوسط من جبل المشارف، إضافة إلى عدد كبير من المستوطنات التي تخنق القدس المحتلة على أراضي قرى يالو وعمواس وبيت نوبا وجبل المكبر وصور باهر وشعفاط وعناتا والخان الأحمر ومخماس والرادار، المحيطة بالمدينة.
ومن الجدير ذكره أنه بعد اتفاق أوسلو بين السلطة الفلسطينية وحكومة الاحتلال عام 1993 جرت مصادرة واسعة لأراضي القدس المحتلة وحولها، منها 10 آلاف دونم لصالح الاستيطان، ونحو 30 ألف دونم لأغراض عسكرية ومحميات طبيعية تشكل احتياطا للاستيطان.
أهداف عدة
من جانبه اعتبر الخبير في شؤون الاستيطان والأراضي خليل التفكجي أن الاحتلال يقود حملة لتفتيت التجمعات الفلسطينية وتقسيم القدس المحتلة، قائلاً إن مشروع الاحتلال الذي وضعه للتطبيق في سنة 2020 بدأت ملامحه تظهر على الأرض.
ورأى التفكجي أن المصادقة على بناء بؤر استيطانية في أحياء الزيتون والشيخ جراح وشعفاط تندرج ضمن السياسة التي وضعها أرئيل شارون حين كان وزيراً للزراعة عام 1990 والتي تقضي ببناء 26 بؤرة استيطانية داخل التجمعات الفلسطينية لتحقيق أهداف ثلاثة هي تفتيت الأحياء الفلسطينية وتهويد المدينة وإحداث تغيير جذري في الديموغرافيا لصالح الاحتلال.
وأضاف:" كل هذا يعني أن القدس الشرقية والغربية ستكونان تحت السيطرة الإسرائيلية وعاصمة للدولة العبرية دون منازع فلسطيني".