هناك سبب "وجيه" يدعو وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى كيل المديح لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أمام مجموعة من قادة المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة. فحسب كيري، تصرف عباس "بمسؤولية كبيرة وحرص على عدم القيام بأي فعل استفزازي تجاه (إسرائيل).
لكن دون أن يذكر كيري طبيعة الأفعال التي تجنبها عباس، مما جعله يغدق عليه المديح، فإنه يمكن القول إن عباس قدم خدمة كبيرة لكل من (إسرائيل) والولايات المتحدة عندما تراجع عن تنفيذ قرار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير المتمثل في مواصلة السعي للحصول على تمثيل لـ "دولة فلسطين" في المنظمات الدولية، وهي الخطوة التي كان من شأنها استدعاء تدخل أمريكي يحرج إدارة الرئيس أوباما ويعقد الظروف الدولية أمام حكومة نتنياهو.
في الوقت ذاته، فقد كان خطاب عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة "معتدلاً" إلى أبعد حد، حيث إنه بخلاف ما جاء في خطاب نتنياهو، أصر على التزامه على المفاوضات كخيار وحيد، في حين إن ما جاء في خطاب نتنياهو دلل على إنه لا يمكن التوصل لتسوية سياسية للصراع من خلال المفاوضات.
فقد أصر نتنياهو على مطالبته التعجيزية، المتمثلة بالاعتراف بيهودية (إسرائيل)، التي تعني ضمناً تنازلا فلسطينيا مسبقا عن حق العودة للاجئين، وفي الوقت ذاته موافقة الفلسطينيين على ترتيبات أمنية، يقصد منها التنازل عن مساحات شاسعة من الضفة الغربية، وضمنها منطقة "غور الأردن"، التي تشكل 28% من الضفة الغربية.
وإلى جانب ذلك موافقة عباس المسبقة على استئناف المفاوضات في ظل تواصل الاستيطان والتهويد. لكن مما لا شك فيه إن أكثر ما أثار ارتياح الأمريكيين والإسرائيليين، هو ليس فقط تواصل التعاون الأمني بين (إسرائيل) والسلطة الفلسطينية، بل تعاظمه بشكل كبير في الآونة الأخيرة، سيما في أعقاب مقتل اثنين من جنود الاحتلال، حيث أشاد وزراء حكومة نتنياهو بالحملة الأمنية التي شنتها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة ضد نشطاء حركتي حماس والجهاد الإسلامي. في حين احتفت بعض وسائل الإعلام (الإسرائيلية) ذات التوجه اليميني بتعمد أجهزة عباس تعذيب نشطاء حركتي حماس والجهاد.
التعاون الأمني يعزز الاستيطان
بكل تأكيد لم يتطرق كيري لمواقف (إسرائيل) الرسمية من الصراع، والتي من الواضح إنها تدلل على حدوث مزيد من التطرف على الموقف الصهيوني. فقد صرح وزير الإسكان الصهيوني أوري أرئيل إن الضفة الغريبة كلها ستبقى تحت السيطرة (الإسرائيلية) " إلى أبد الآبدين ".
ولكي يضع النقاط على الحروف، فقد طمأن أرئيل المستوطنين قائلاً إن كل الأراضي تقع غرب نهر الأردن ستظل تحت السيادة (الإسرائيلية)، مشدداً على التزام حكومته بمواصلة البناء في جميع أرجاء الضفة الغربية.
ومن الواضح إن هذا التصريح الذي يصدر عن أرئيل، الذي هو عضو بارز في المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن، أهم دائرة صنع قرار في الكيان الصهيوني، فإنما يدلل بشكل واضح على إن استغراق عباس في المفاوضات ستكون محصلته العملية صفر.
لكن الذي يزيد الأمور تعقيداً هو حقيقة إن السلطة الفلسطينية أصبحت طرف رئيس ومهم في تعزيز بيئة الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية. فحسب تقرير (إسرائيلي) صادر حديثاً، تبين إن تحسن البيئة الأمنية بفعل التعاون والتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة والجيش (الإسرائيلي) قد حول الضفة الغربية إلى منطقة جاذبة للسياحة الداخلية، وهذا يعني تعزيز اقتصاديات المستوطنات، مما يمثل بحد ذاته عاملاً إضافية لتعزيز الاستيطان اليهودي.
وحسب تقرير نشره موقع "وللا" الإخباري، فقد تعاظمت تعاظم مظاهر سياحة "سرير وفطور"، والتي تجذب الكثير من (الإسرائيليين) الذين يقطنون المدن الساحلية في (إسرائيل) إلى مستوطنات الضفة الغربية.
ونقل التقرير عن أحد (الإسرائيليين) الذي قدم للسياحة في الضفة الغربية قوله: " كنت أدفع آلاف الدولارات من أجل الاستمتاع بجلسة في أحضان الطبيعة في إحدى الدول الأوروبية، أما الآن، فعلى بعد بعض كيلومترات بإمكاني الاستمتاع بمناظر أكثر جمالاً بسعر زهيد نسبياً".
رأي (إسرائيلي) مغاير
من الأهمية بمكان الاستماع إلى الشهادة التي تقدمها الكاتبة الصحافية اليهودية عميرة هاس التي اعتبرت إن تنازلات محمود عباس هي المسؤولة عن تطرف رئيس الوزراء (الإسرائيلي) بنيامين نتنياهو. وقالت عميرة هاس في مقال نشره موقع صحيفة "هارتس" إن عباس وافق على استئناف للمفاوضات والتزم بعدم القيام بأية خطوة للانضمام للمؤسسات الدولية وتنازل حتى عن الحد الأدنى من مطالبه، والمتمثل في وقف مشاريع الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية والقدس.
وتساءلت هاس: " أيضا "هل سيسمح لنفسه -عباس- بالتوقيع على إعلان الاستسلام كما تطلب (إسرائيل)؟". وتجيب قائلة: "لحسن حظ الولايات المتحدة لقد اثبت عباس نفسه كزعيم أوحد ليس بحاجة للمؤسسات والإجراءات الديمقراطية، ولكنه يعرف أيضاً أن توقيعاً كهذا منه لا يساوي الحبر الذي سيكتب به"، على حد تعبيرها.
قصارى القول، في غمرة الحديث الكثيف عن الملف الإيراني، تبدو (إسرائيل) مرتاحة إلى أبعد حد لما يحدث في الساحة الفلسطينية.