مصطلحات عدة نسمعها في السنوات الأخيرة، يرددها العديد، تصدر حولها كتب ومؤلفات، وتعقد حولها دورات وندوات، تسعى لها المجتمعات النامية، ويرفعها آخرون في شعاراتهم لتكون ضمن برنامجهم الانتخابي.
من هذه المصطلحات أو الشعارات: الجودة، التنمية، النهضة. وهنا سأتحدث بإيجاز عن النهضة، بذكر بعض نماذجها الناجحة.
وأبدأ بسؤال تم توجيهه لمهاتير محمد عن سبب نهضة ماليزيا، فأجاب: (أن تجعل الشعب كله يفكر في المستقبل).
وفي تحليل سريع لهذا الجواب، هناك أربع نقاط يمكن ذكرها: توجيه الشعب للصالح العام، وهذا يحتاج إلى دراسة من جهة قيادية حكيمة، وفق خطط رشيدة لإدارة البلاد، فوجود جهة رسمية ترسم المسار، وتحدد خارطة الطريق، يعتبر العامل الأساس في نهضة الشعوب. النقطة الثانية: النهضة لا تكون إلا بكل مكونات الشعب، وليس بفئة دون فئة، فيجب أن تشمل الشعب بكل نسيجه المجتمعي، وشرائحه وطبقاته.
وثالث هذه النقاط يتعلق بأهم مسببات النهضة، ألا وهو إعمال العقل والتفكير، بالتالي وضع الخيارات الأنسب، التي بها تتحقق النهضة. والنقطة الرابعة تخص النظرة الثاقبة والواعية، ألا وهي النظرة المستقبلية، فإن فكر الجميع وعمل على تحقيق غد مشرق ومستقبل واعد، فإن تطوير الحاضر يصبح أمراً واقعياً، أو كما يقال تحصيل حاصل. ونترك ماليزيا لنتوجه إلى البلد التي وُعِدنا قبل حوالي عشرين سنة أننا سنصبح مثلها، ألا وهي تلك الجزيرة الصغيرة في المساحة، الكبيرة في التقدم والتطور والنهضة: سنغافورة. بلد كانت من ضمن الدول النامية، حتى جاء صانع نهضتها، لي كوان يو الذي رسم طريق النهضة، وعرف العوامل التي تؤدي لها. اسمعوا له وهو يقول: (الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت به عندما استلمت الحكم فـي دولة فقيرة جداً، اهتممت بالاقتصاد أكثر من السياسة، وبالتعليم أكثر من نظام الحكم). فتقدمت سنغافورة في كل المجالات، فكانت أول دولة طبقت الحكومة الالكترونية. وسعت للنهضة من خلال الاهتمام بالكرامة البشرية، وباختيار العنصر البشري المناسب في مكانه الصحيح، (اخترنا دائماً الفرد أو العنصر الأفضل لأي مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته)، والكلام للي كوان يو، الذي اختار اللون الأبيض كزي موحد لأفراد حزبه كدلالة على الشفافية والنظافة. وننتقل معكم إلى بطل الفقراء، وصانع نهضة البرازيل الحديثة لولا داسيلفا، الذي استطاع خلال دورتين رئاسيتين أن ينهض بالبرازيل من هاوية الفقر والاقتصاد الضعيف إلى دولة تملك فائضاً ومخزوناً مالياً كبيراً، وذلك من خلال خطة اعتمدت على النهوض بالاقتصاد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحديث الجيش، وقبلها الاستثمار في التعليم.
ودلالة على نهضتها السريعة، استطاعت البرازيل أن تحظى بشرف تنظيم كأس العالم لكرة القدم في العام المقبل، ودورة الألعاب الأوليمبية عام ٢٠١٦. ورغم أن أمثلة الدول التي استطاعت أن تشهد نهضة ملحوظة كثيرة، إلا أنني سأكتفي بالمثال الأخير عن تركيا. تركيا التي لا يتسع المقال لذكر خطواتها النهضوية في ظل حكم حزب العدالة والتنمية لها خلال العشر سنوات الماضية، وعلى رأسها أردوغان
ولا ينكر أحد كيف استطاع هذا الرجل من الصعود بتركيا من طريق الانحدار إلى القمة في كافة القطاعات، لتحجز مكاناً مرموقاً بين الدول اقتصادياً وسياسياً كذلك. وعن سر نهضة تركيا يقول أردوغان: (سياستنا الأفعال لا الأقوال)، وفي جواب آخر يقول: (أنا لا أسرق). فهي إذن سياسة مبنية على الشفافية والنزاهة والعمل المتواصل في كافة المجالات. وهنا نرى أن كل النماذج من أجل تحقيق نهضة شعوبها، ركزت على القطاع الاقتصادي، فالأبدان الجائعة لا يمكن أن تنتج، ولا تستطيع أن تعمل بالاتجاه الصحيح، واهتمت بالقطاع التعليمي فلا تطور ولا تقدم إلا وفق أسس علمية، والشعب الجاهل لا تجدي معه أي سياسة نهضوية، وكذلك القطاع الأمني بمفهومه الواسع من خلال الاستقرار والعدالة والشفافية والنزاهة.
وصدق الله تعالى الذي قرن عبادته بأمرين (الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف) وهو عز وجل الذي أنزل القرآن فيه تبيان كل شئ، وأول كلماته كانت (اقرأ). فهل رسمنا خارطة طريق فيها خير البلاد والعباد، ويكون شعارها ونتيجتها... نهضة...