في عز العتمة والبرد بفعل غياب الكهرباء زارني طيف صديق قديم، ذاك الونيس الدافئ "بابور الكاز"، أطل علي من ذاكرة التراث، فشممت في رأسه الأسود رائحة عتاب وهو يرقب المكيف المعلق على الجدار في صدر الغرفة ساكنا لا ينفث حرارة ولا بردا، بينما يقبع "الميكروويف" في المطبخ وقد تحول إلى خزانة صغيرة، أما أنبوبة الغاز فتبدو هزيلة في انتظار دورها مع استمرار أزمتها.
لحظات السكون التي يخترقها صوت مولد كهرباء المستشفى، جعلتني أحن إلى صوت البابور، ذاك الصوت الشجي الهدار حيث نكتشف اليوم كم كان نغما جميلا وموسيقى لم نفارقها في الصباح دون شرب كوب شاي من إبريق على البابور.
ومع إضافة أزمة الغاز إلى الكهرباء نكتشف اليوم كم كان البابور رفيقا وفيا حاضرا في المطبخ وفي غرفة المعيشة، يشاركنا تحميص الخبز مع أكلات الشتاء، وكم أنقذ "المزنوقين" فرافقهم إلى الحمام، كوسيلة تسخين مياه ومدفأة، وهكذا تعددت مواهبه وخدماته.
ذاك العزيز كان ذا أهمية نفسية واجتماعية حيث أن جهاز العروس كان لا بد أن يحوي ضمنه بابور الكاز كقطعة هامة من أثاث البيت لذا فإن نساء عديدات يحتفظن بهذا البابور كذكرى عزيزة من أيام الزواج.
لم يقتصر نشر البابور الدفء والحميمية داخل المنزل فقط، بل امتدت إلى علاقات الجيرة، ويحدثني الصديق أبو صلاح كيف كانت كل نساء حارته في الشجاعية تستعير بابور والدته لإمكانياته العالية بقوة نيرانه وصلابته.
لم يكن يحتاج البابور الكثير من العناء إذا ضعفت نيرانه فكانت تكفيه إبرة "انكش وولع"، بينما نواجه اليوم انسداد عيون وقنوات وطرق ومعابر وأفق، ولا نسمع صوت مسئول يهدر صوته مثل البابور.
ومع ذكرى البابور لابد أن نرفع صوتنا، وأن يعلم الجميع أن المواطن "خالص كازه".