البريج-محمد بلّور-الرسالة نت
أول من يعلم بشروق الشمس في مخيم البريج وسط قطاع غزة، هو أبو خليل النوري ذلك لأن أشعتها تداهم بيته من الشقوق الواسعة في الجدران.
عشر سنوات عجاف مرت ثقيلة على أبو خليل منذ مطلع الانتفاضة بعد أن فقد عمله داخل "إسرائيل" وكبر الأبناء وتزوج بعضهم في نفس البيت المكون من 3 حجرات آيلة للسقوط.
يمدد أبو خليل ساقين منتفختين من فرط الإعياء على مقعد خشبي فقد أقعدته سمنة المرض ويقول: "نسكن بيتا هو والشارع واحد وأنا مريض بالقلب والأزمة والغضروف والضغط وأتلقى علاجاً من أمراض أخرى انظر لهذه الجدران المهدمة" .
ثغرات مستورة
وكشف أبناء أبو خليل عن ثغرات في جدران الحجرات ستروها ببعض الوسائد والفراش تأييدا لرواية الأب.
وكانت الدبابات الإسرائيلية قصفت مخيم البريج في اليوم العاشر للحرب بشكل عشوائي ما أدى لاستشهاد وإصابة عشرات المواطنين وتضررت كثير من المنازل أبرزها منزل أبو خليل الذي أتى قصف منزل مجاور آخر على جدرانه فباعد بينها كثيرا.
تتشح أم خليل بثوب أسود بينما يتلقف جلساء الحجرة أطفال الابن الأكبر خليل ,تقول أم خليل:"بعد الحرب أصبح البيت أسوأ بكثير قالوا لنا استأجروا منزلا لكننا لا نستطيع. أنا مريضة بالقلب وعملت قسطرة وعندي ضغط وبيتنا ضيق وابني مصاب بساقه تزوج حديثا وبناتي صبايا في الجامعة والمدرسة وخليل متزوج وله طفلان والبيت لا ينفع لا صيف ولا شتاء" .
يحشر سكان المنزل الاثنا عشر أنفسهم في بيت جدرانه مهترئة تماما ما أغرى الزواحف بزيارته والمكوث فيه طويلا .
وسئمت أم خليل من وعود وكالة الغوث لهم بإعادة بناء البيت كما بعثوا مؤخرا بطلب مساعدة لرئيس الوزراء إسماعيل هنية .
ويعاني قطاع غزة من نسبة بطالة بلغت65 % في حين تخطت من هم تحت خط الفقر 80% ورغم أن أسرة أبو خليل واحدة من بين آلاف الأسر الفقيرة إلا أن اجتماع عناصر الفقر والمرض وضيق المنزل شكلت نموذجا حقيقيا للمعاناة .
وتخشي أم خليل من تهدم جدران البيت الذي أصبح مليئا بالثقوب متفاوتة الأحجام وقد حاولوا مرارا أن يرقعوها لكنها أكثر من أن تحصى وأشد من أن تصلح.
أجواء دراسية
لا يعبئون باقتراب موعد الإفطار فلا شيء يغلي على القدر, من يدرس من الأبناء في الجامعة أو المدرسة يعود ليقف حائرا أمام بيت لا يصلح للتحصيل .
أسماء على وشك التخرج في الجامعة الإسلامية. تفوقها المستمر شفع لها أمام رسوم الجامعة فمعدلها تجاوز85 % أما محمود الطالب الجديد في قسم إدارة الأعمال بجامعة الأقصى فسيفتتح حياته الجامعية في بيت ضيق ونصف مهدم.
وأضاف: "كنت في توجيهي أدرس حتى جاءت الحرب واستشهد ابن عمي وأصدقائي وتضرر بيتنا بعدها عاودت الدراسة في الحجرة وأضطر أن أخرج أهلي منها وكانت التيار الكهربائي ينقطع كثيرا واليوم صرت بالجامعة وأحتاج أجرة الطريق وأحتاج ملابس من أين؟!" .
ويحمر وجه محمود أمام أصدقائه فلا مكان لاستقبال ضيف فيتابع: "في الصيف دائما أنا خارج المنزل وفي رمضان أخرج من بعد السحور وأنا غالبا في الخارج" .
أجواء المنزل تغلي وسط دوران مروحة صدئة لا تغير شيئا من واقع الصيف الحارق .
تعاني هدى في الصف الحادي عشر وحنان في الثالث الإعدادي ذات الظروف الدراسية وحالهم يرثى إليه .
ثقوب السقف
الابن الثاني إبراهيم 24 عام يعاني من إعاقة دائمة في ساقه , عام 96 سقط من فوق سطح المنزل فمكث في غيبوبة طويلة وفقد ذاكرته وعام2001 أصيب برصاصة ثقيلة من دبابة قرب محررة نتساريم فانقطعت أربعة أوردة في ساقه اضطر للسفر لاستكمال العلاج وبقيت شظايا أخرى ترقد قرب ركبته وتؤلمه في البرد ويد تهتز بسبب ارتخاء عصبي واليوم هو أحسن حالا فهو يمشي برفقة "عكاز" لا يفارقه .
وقال إبراهيم:"أطمح في بيت يسترنا فغرفتي ضيقة جدا فقد تشردنا بسبب البيت " في أسابيعه الأولى كعريس اضطروا لوضع آنية بلاستيكية في حجرته تقيه زخات المطر .
ثارت ضحكة عفوية من الحضور قطعت حديث إبراهيم عندما ذكر أنه ينتظر ميلاد زوجته الحامل , أين سيضعون المولود؟!! .
الجولة الميدانية كانت في سراديب البيت القديم , أشاروا بأصابعهم لحجرات صغيرة تظللها خرقات ممزقة في حين اكتظ المطبخ بآنية قديمة .
محمود أشار لمكان نومه في مساحة صغيرة تتوسط كومة من الأغراض فيما كان خليل يدفع خزانة قديمة سدوا بها فتحة الجدار المطلة على الشارع .
الفئران نبشت البلاط القديم ودخلت للمنزل بينما اهترأت شبكة المياه والكهرباء وتدلت أسلاكها فوق رؤوس أصحاب البيت .
الأم عاجزة
وتقف الأم عاجزة أمام مطالب الأبناء اليومية فتقول:"لا أستطيع الرد على طلبات المدراس أبنائي متفوقين ولا أريد أن اخسرهم وخايف عليهم ينحرفوا وأبوهم لا نستطيع شراء علاجه".
يلهث أبو خليل وهو يشير لخزانة الأدوية الدسمة على سطحها عقاقير وعبوات مختلفة الأحجام –يرشف من بخاخة الأمراض الصدرية-ويقول: "لا احد يعمل هنا ونحن ننتظر مساعدة أهل الخير" .
وفقد خليل الابن الأكبر عمله في مهنة "القصارة" مع اشتداد الحصار فقد كان مصدر الدخل الوحيد منذ سنوات .
يحبذ خليل الصمت أمام رواية الشهود الدائمين فماذا ستغير روايته من واقع الحال بعد أن وصل الحال لما وصل إليه .
حصلت الأسرة على بعض المساعدات الإغاثية بعد الحرب على غزة لكن مشكلتها لم تحل فحالها يزداد سوءا بعد سوء .
وتتمنى أم خليل 54 عام أن تحصل على أي فرصة عمل لتشارك في سداد احتياجات البيت والأطفال والطلاب معا.
وتبقى أسرة أبو خليل محتجزة في بيت مهترئ انتظارا لتحسن الأحوال في تاريخ مجهول .