بعد أن طال أمد التنافر بين أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، من دون أية محاولة من رئيس الحركة، أو من أمين سر هذه اللجنة، لأخذ سائر الأعضاء، إلى رؤية وخطة عمل تليقان بالحركة الرائدة؛ أصبح واجباً وطنياً بامتياز التصدي لهذه الظاهرة المعيبة التي أنتجت خراباً وفراغاً وشللاً، ثم استطالت لتصبح شجاراً في الاجتماعات، ومناكفات بين أعضاء، يستأنس واحدهم بتعاضد عضو أو عضوين، ممتلئاً بوهم أنه بات، من موقع ضغينته أو نميمته، رقماً صعباً، أو محوراً مهماً، أو رمزاً منفتحاً على آفاق مجد وزعامة.
كان لافتاً، منذ المؤتمر العام السادس للحركة، أن مجلسها الثوري، والذي يفترض أنه برلمانها الذي يُسائل اللجنة المركزية على أدائها؛ وجد نفسه، بعد انتخابه، تحت سقف منخفض، وتجري انعقاداته في مناخ من الهواء الناقص. فلا علاقة للمجلس بالحكومة وأدائها، ولا بالمال وإدارته، ولا بالأملاك ومآلاتها، ولا بمنهج عمل السلطة، ولا بوضع النقاط على حروف العلاقات المتردية بين أعضاء "المركزية". باتت كل القضايا الجوهرية التي ينبغي مناقشتها ومعالجة أوضاع خاطئة فيها، تتسم بالحساسية، ولا يجوز طرحها، وأصبح النقد الواجب لظاهرة انحراف، أو لرزيّة من الرزايا، نوعاً من "نشر الغسيل"، فيما "القضية تمر بمنعطف خطير"، و"المستفيد الوحيد هو العدو"، وغير ذلك من ذرائع حالت دون أن نتوقف لإصلاح عرباتنا، "لكي لا تسخر الطرقات منا"، حسب تعبير محمود درويش.
لم يكن بالإمكان النهوض بموقفٍ يؤكد أن "المنعطف الخطير" للقضية وللمجتمع يفترض أن يحث على المصارحة، وعلى وضع النقاط على الحروف، وعلى وقف التردّي. أما الغسيل، وسخاً أو ناصعاً، فإنه مشهود، ثم إن العدو يعرف كل صغيرة أو كبيرة، وكلما دعته الحاجة إلى إرباكنا، تتولى صحافته الموحى لها فتح ملفٍ، أو إثارة مسألةٍ تتعلق بسلوكٍ معيب. ولا يختلف اثنان على أن الخطأ والاستنكاف عن تقويمه يوفران أعظم استفادة للعدو، وليس التكتم على أمرٍ لم يحظ بكتمان، منعاً وإحباطاً لمعالجته.
في الشجار، في أثناء انعقاد اللجنة المركزية لحركة فتح، أخيراً، قصّرت اللغة المتاحة، مثلما قصّرت الأفكار، عن أداء مهمتهما، فتولت القناني أمر الحوار بالتراشق. في البدء، كان انعدام الرؤية الواحدة للحدث الوطني سبباً رئيساً لا يتحمل مسؤوليته المتراشقون وحدهم. ففتح حركة يُفترض أنها رائدة، وهي، قطعاً، ذات إرث كفاحي. وتتبوأ اللجنة المركزية موقعاً علوياً، يعترش قاعدة فتحاوية واسعة وحيوية، من الوطنيين الرائعين الذين استعصوا على محاولات التيئيس التي حملتها مصاعب فلسطينية داخلية، وتحديات وطنية وخارجية، فالأحزاب الأيديولوجية، عندنا وفي العالم العربي، تتشظى وتتناثر قواعدها الاجتماعية والتنظيمية، على الرغم مما تبذله من جهود للبناء الفكري، لكن فتح أشبه بجسم مغناطيسي يشد الأعضاء إليه، وإلى تاريخه وتراثه، وإلى كوفية "الختيار" الشهيد، مهما كان الحال الذي فوق. ويصعب على الفتحاوي ألا يكون فتحاوياً. ربما بسبب هذه الحقيقة، يسترخي أعضاء "المركزية" عن واجباتهم، وفي مقدمها واجب تعزيز اللحمة، وصياغة الرؤية، والتوفر على تحقيقها. كأنما واحدهم يحاكي هارون الرشيد في قوله للغيمة عند مرورها: "أينما تذهبين خراجك لي".
يختلف هارون الرشيد في تجربته وفي مناقبيته، فهو الذي أمضى حياته في الحكم ورِعاً بين حج يؤديه في سنة، وغزوٍ يقود فيه، ميدانياً، جيشه المجاهد، في سنة أخرى. ولم يكن العسس في عهده يصطاد الناس في رخائها وعزتها، وإنما يصطاد للناس من أجل مزيدٍ من رخائها وعزتها. كان يبث عيونه بين الناس، لكي يعرف أحوالها، ويتعرّف على أقوال العامة، لكي يصحح نفسه، ويطوف بينهم متنكراً في الأسواق والمجالس، ليقف على خطأ لم تأت الحاشية على ذكره. كان يستحق أن يقول للغيمة ما قاله، لأنه لم يسترخِ على حشايا كرسيّه، لكي يفوز بخراج الغيمة. ولا ندري إلى أين ستكون وجهته، لو لم تكن هناك غيمة ولا غيث ولا خراج، وإنما بغضاء وأباريق متطايرة.